يشترك مناهضو الانقلاب (من التيار المدني والإسلامي) مع داعمي الانقلاب في خطيئة مشينة … وهي احتقار الشعب المصري، بل سبّه وشتمه بأقذع الألفاظ.
وإذا كان من يدعمون الانقلاب معذورين في ذلك (لأنهم موجودون في الحكم بقوة السلاح، ولأن الشعب هو عدوهم الأول)، فإن ارتكاب أهل الثورة لهذه الخطيئة واستمرارهم فيها لَهُوَ من أعجب العجائب في هذا الزمان.
حين بدأت تظاهرات الخبز منذ أيام في عدة محافظات في وقت واحد بسبب قرار أحمق اتخذه وزير تموين الطغاة في كل العصور، وجدنا كلا التيارين المدني والإسلامي يقلل من شأن هذه التظاهرات، ورأينا البعض يهاجمها، ورأينا – للأسف الشديد – كثيرا من الناشطين الشامتين في هؤلاء البسطاء.
قال بعض الليبراليين إنهم تنكروا للثورة، وتخلوا عن شبابها، وما يحدث لهم طبيعي لا غرابة فيه بعد أن وقفوا مع المستبد ضد من يطالب بحقوقهم.
وهؤلاء حين تناقشهم عن حقوق العمال، وعن الحد الأدنى والأعلى للأجور، وحين تذكرهم بأن أول شعارات الثورة كان (عيش)، فكيف لا ندعم بسطاء خرجوا من أجل حقهم في الرغيف !؟، حين تفعل ذلك لا تسمع منهم إلا صمتا!
وقال بعض الإسلاميين هؤلاء هم من رقصوا على الدماء، وباركوا قتل الأبرياء، وغنوا “تسلم الأيادي”، ونزلوا في سهر ثلاثين “سونيا”، ومن أعان ظالما سلطه الله عليه!
فإذا قيل لهم إذا كانت كل هذه الجموع قد باركت قتلكم ونزلت في الثلاثين من يونيو وخرجت على الرئيس المنتخب فكيف تنكرون إذن أن الذين نزلوا في الثلاثين من يونيو كانوا أعدادا غفيرة؟ وكيف تلقون حجارتكم على الشعب المصري كله إذا اشتكى من الطاغية طالما أن الذين نزلوا قلة مندسة أو عساكر أمن مركزي مع حشد الكنسية كما تدعون؟
تراهم حينئذ يلوذون بصمت عجيب أيضا !
الحقيقة إن ظاهرة تحميل الشعوب مسؤولية الفساد والاستبداد عمل من أحقر الأعمال التي دأبت الحكومات المستبدة على القيام بها طوال العقود الماضية.
يريدون أن يقنعوا الناس بأنهم حثالة، وأنهم يستحقون ما يجري عليهم، ولا حق لهم في حياة كريمة.
ويستتبع ذلك … أن يعاقب هؤلاء البسطاء إذا انتفضوا من أجل حقوقهم!
الغريب أننا قد وقعنا في ذلك معشر الثوار … فأصبحنا – بُعيد ثورة يناير – نُنكر على الناس مطالبتهم بحقوقهم، وأصبحنا نرفع شعارات العسكر التي تشوه (المطالب الفئوية)، وكأن الثورة قامت من أجل شيء آخر غير تلك المطالب.
إن غالبية ثورات العالم قامت من أجل الخبز، وغالبية الثورات التي توصف بأنها ثورات عدل ومساواة (كالثورة الفرنسية مثلا) لم تبدأ ولم تشتعل شرارتها إلا على أيدي البسطاء الجائعين.
صحيح أن النخب قادت المسيرة بعد ذلك … ولكن الانطلاقة الأولى كانت من أناس لا يمكن وصفهم سوى بأنهم رعاع … جوعى … عرايا … من أسفل السلم الاجتماعي في الشعب.
من لا يدرك ذلك … لديه مشكلة !
ومن لا يدرك أنه حين يسبّ الناس فإنه يقع في فخ نصبه له النظام العسكري منذ عشرات السنين، وأنه يقلد جلاده لأنه مهزوم (والمهزوم مولع بتقليد المنتصر) فهو أيضا لديه مشكلة … بل في الحقيقة هو لا يملك تصورا واضحا عن معنى الثورة وأهدافها.
إن هدف الثورة اليوم – وكل يوم – هو هؤلاء البسطاء.
لقد خسرنا جولة هامة في مسيرتنا لأننا لم نحقق أية مكاسب لعامة الناس، بينما نرى العسكري قد وعدهم بأنهار العسل ثم انقلب عليهم بقوة السلاح وصعّر لهم خده … وبدلا من احتضان قضاياهم من الثوار … نرى غالبية الثوار من غالبية التيارات تتكبر على مطالبات هؤلاء!
أين ظهيرنا الشعبي إذا خسرنا هؤلاء؟ من سيدعمنا إذا لم يدعمنا هؤلاء؟
أسئلة بلا إجابة!
لقد نزل البسطاء مطالبين بحقهم في رغيف الخبز، فما كان من الدولة إلا أن استجابت لهم خوفا، وقامت بتوزيع الخبز مجانا، كل ذلك لكي لا يثور هؤلاء، ولكي لا تتمكن أي قوة أو جماعة أو تنظيم من استثمار هذا الغضب وتوجيهه للمسار السليم … ثم يقول البعض إن الثورة قد فشلت وهزمت، والحقيقة أن المشهد أمامنا يشرح بوضوح أن الثورة مؤهلة للنجاح، ولكن نحن الذين فشلنا في توحيد جهودنا وصفوفنا لهزيمة هذا النظام الغاشم، وفشلنا في احتواء ملايين الغاضبين من المصريين، بل نستفزهم بالسخرية والسب والشماتة.
هؤلاء البسطاء وقفوا معنا في عشرات المليونيات، وفي عدة استحقاقات انتخابية، وفي مئات المواقف والتظاهرات … لم يخذلونا (بشكل عام)، ولكن نحن من خذلناهم، ولم يحصلوا منا سوى على جعجعة سياسية تتعلق بالدستور والقانون والانتخابات الخ الخ … وكل ذلك على حساب بطونهم وقوت أبنائهم … ثم نلومهم بعد ذلك على انتفاضتهم من أجل رغيف خبز.
قليلا من الإنصاف يا قوم … قليلا من الإنصاف !
تحية لكل هؤلاء البسطاء الذين نزلوا يطالبون بحقهم في رغيف الخبز …!
ولا عزاء لثوار يتكبرون على البسطاء، ويخسرون ظهيرهم الشعبي، ويدارون فشلهم وأخطاءهم بتحميلها لآخرين.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …