تمر المنطقة العربية باختبار شديد القسوة، اندلعت ثورات عظيمة، حركت الجماهير، وزرعت مطالبها في قلوب جيل الشباب، وأصبح التغيير هدفا راسخا في وجدان غالبية الأمة.
واجهت الأنظمة العربية المستبدة هذه الثورات بالحديد والنار من اللحظة الأولى، أو باللين (مؤقتا) ثم بالحديد والنار في نهاية المطاف، حتى أصبحت أحوال أوطاننا يرثى لها.
في سوريا.. بذل الثوار دماء وتضحيات لا أول لها ولا آخر، وصبر شعب كامل على بلاء عظيم، في مأساة إنسانية تاريخية قلّ أن يوجد لها مثيل بين الأمم، والشعب يواجه ميليشيات النظام، ويواجه جيوش القوى العظمى التي استدعاها النظام العميل، ولكن -وللأسف الشديد- لا نكاد نجد أفقا لحل منصف لهذه الثورة العظيمة (أعني على المدى القريب).
في مصر.. انتصرت الثورة في جولات، حتى وصلت إلى أعلى مناصب الدولة (شكليا على الأقل)، ولم يستثمر ذلك أحد، وتمكنت الثورة المضادة من هزيمة ثورة يناير في جولة هامة، وما زالت المعركة مستمرة، ويبدو المعارضون لنظام الثالث من يوليو اليوم متفرقين، يتنازعون على فتات، يهيم بعضهم في أوهام لا يمكن أن تتحقق، ويعيش بعضهم في أحقاد الماضي، ويتغذى النظام على ذلك كله، فيبطش بالجميع ولا يكاد يتعظ أحد.
في اليمن وليبيا.. لا صوت يعلو فوق قعقعة السلاح، والتدخلات الخارجية تعصف باستقرار المجتمع، وتدمر مؤسسات الدولة، والوضع الإقليمي يغذي استمرار هذا العبث.
في تونس.. تجربة ديمقراطية (على كف عفريت)، يناضل العقلاء لاستمرار المسار الديمقراطي الهش، على أمل أن تتغير الأوضاع الإقليمية بحيث تتمكن تونس من شق طريقها دون ضغوط من الدولة العميقة، ولا من المجتمع الدولي.
كل تجربة من التجارب العربية التي تحدثنا عنها لها خصوصيتها، ولكنها جميعا تتفق في أنها تجارب تفتقر للقيادة (ربما نستثني تونس نسبيا).
نحن شعوب لا تملك قيادات سياسية!
من الطبيعي بعد عشرات السنين من حكم الاستبداد أن تصبح الشعوب بلا زعامات، وهذا ما حدث في العراق مثلا، فحين سقط صدام حسين لم يجد العراقيون (شيخ حارة) له اعتبار في العراق!
الاستبداد يقضي على أي قيادة، لأنها يمكن أن تجمع الناس أو أن توعيهم أو أن تحرضهم على المطالبة بحقوقهم المسلوبة، وبالتالي لا يتبقى سوى الأذناب، ويصبح المخبرون الموالون لأجهزة الأمن هم القيادات، وإذا ظهرت أي قيادة طبيعية فلا بد أن يقضى عليها بالقتل أو السجن، أو بالتطويع والتدجين، فيتحول من زعيم.. إلى مخبر!
في البوسنة والهرسك.. ظهر زعيم تاريخي هو الرئيس المرحوم (علي عزت بيجوفيتش)، وبرغم قسوة الواقع في تلك اللحظة التاريخية، وبرغم المجازر التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من البوسنويين، إلا أن (بيجوفيتش) وفريقه تمكنوا من اجتياز هذه المحنة، فكونوا جيشا صمد أمام الجيش الصربي (وهو جيش متوحش من أقوى جيوش العالم آنذاك)، وخلقوا وضعا دوليا على الأرض، وأصبحت لهم دولتهم المستقلة.
الخبر السيئ.. أننا -الآن- لا نملك قيادات مثل (علي عزت بيجوفيتش)!
الخبر الجيد … أن هذا الوضع لن يستمر، فنحن نملك في المنافي والسجون وفي مخابئ المجتمع المصري قيادات تستطيع (مع الوقت) أن تقود مصر إلى الأمام وبخطى ثابتة، ولكن لكي يتحقق ذلك لا بد من طي هذه الصفحة السوداء من حكم “سيسي” ومجلسه العسكري.
ما قلته عن مصر ينطبق على سوريا، واليمن، وليبيا، وغيرها من الدول.
نحن أمام جيل رأى تجربة نجاح الربيع العربي، ورأى كذلك تجربة الفشل، وقد فهم النجاح، واتعظ من الفشل.
إنه جيل نابه، مختلف عمن سبقه، يستطيع استخلاص العبر، وطموحات هذا الجيل هي التغيير الشامل لا التغيير الزائف الذي يرضى ببقاء الحال على ما هو عليه مقابل شكليات تافهة، أو مقابل مناصب زائلة، أو مصالح شخصية.
قيادات المستقبل تحتاج إلى عدة أمور لكي تتسلم القيادة، أولها بعض الوقت، لأنها قيادات لم تستكمل خبراتها بشكل كامل.
وتحتاج كذلك إلى انسحاب القيادات (التاريخية) بالتدريج، وتسلم المهمات في الدولة وفي المعارضة بالتدريج.
وتحتاج قبل كل ذلك إلى توافق وطني يحدد مهمة كل من يتولى السلطة، هذا التوافق الذي لا يمكن أن يتحقق بالعجائز، بل يتحقق بالشباب، وهم قادرون على ذلك بعد أن جمعتهم المنافي والزنازين.
خلال الشهور الماضية التقيت بعدد من الشباب لديهم طموحات سياسية عظيمة، طموحات واضحة، مدروسة، لها برامج تفصيلية.
التقيت بعدد من الشباب الذين يملكون تصورات واضحة عن برنامج العدالة الانتقالية الذي يستطيع أن ينقذ مصر بعد إسقاط هذا النظام الفاشي، والتقيت كذلك بعدد من الشباب الذين يملكون تصورات واضحة عن إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية في دولة تحترم القانون، بل التقيت بعدد من الشباب الذين يطمحون لرئاسة الدولة، ويملكون برامج واضحة للحكم.
جميع هؤلاء أعمارهم بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين!
قل لي ما طموحك.. أقل لك ما ستحققه على الأرض!
إن واجبنا اليوم هو تحرير المستقبل، ولن يتم ذلك إلا بالإفراج عنه، المستقبل مسجون في سجون العسكر، وفي المنافي، وفي الحركات السياسية، وفي الفصائل المقاومة على اختلافها.. إلخ
ستظل المنطقة كلها أسيرة اضطرابات لا أول لها ولا آخر، ولن يتغير الوضع إلا بتحرير مصر، وواجب المصريين اليوم أن يتوحدوا ضد هذا النظام الفاشي الجاثم على أنفاس الوطن.
غالبية المصريين يتفقون على ضرورة أن تصبح مصر دولة قانون، أساسها حقوق المواطنة، وأن يصبح للناس حق الاختيار، وهذا الحد الأدنى يكفي للتحرك، على أن يحسم كل خلاف بعد ذلك بالعودة إلى الناس، وعلى أن نمنح الناس قليلا من الوقت في فترة انتقالية يتم فيها هيكلة كثير من مؤسسات الدولة التي ثبت أنها ليست أكثر من (عزبة) يديرها العسكر.
واجب على كل المصريين أن يتحدوا ضد هذا النظام، لكي يخرج لنا من غيابات السجون ومن كهوف المنافي قيادات تستطيع أن تحقق الخير لهذا الوطن الغالي.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..