“1”
خرجت من صالة سفر ووصول مطار تيجل ببرلين، متجهاً إلى محطة انتظار أوتوبيسات النقل العام الذاهبة إلى وسط المدينة.
أعشق رائحة المخابز والمقاهي المنتشرة في الصالة الرئيسية للمطار، وتشعرني الحركة الدائرية التي لا بد منها لكي يصل المسافر إلى بوابة طائرته أو يغادرها بانسيابية تبعث على التفاؤل.
غريبة الألفة مع مطار، غير أنها السنوات الطويلة والتردد الدائم عليه وملامح المكان التي لم تتغير.
تذكرت “المطار الكبير” الذي كلفت الحكومة الاتحادية وحكومة المدينة شركات خاصة بتشييده منذ سنوات وبمليارات كثيرة، ويفترض بمعماره أن يليق بمكانة العاصمة الأهم في الاتحاد الأوروبي، وتلاحقه دون توقف فضائح الفساد والإخفاق والتأجيل.
لا أريد للفضائح أن تزول أو لأعمال البناء بهذا المسمى المطار الكبير أن تنتهي، فافتتاحه سيعني توقف الطيران من وإلى تيجل وسيجعل من قدوم برلين ومغادرتها مسخاً مما يحدث في العواصم والمدن العالمية الأخرى.
“2”
زحف أتوبيس “تيجل” ببطء باتجاه محطة الانتظار وعشرات المنتظرين، شيء ما دفعني إلى النظر إلى قمرة السائق، أعرف هذا الوجه ببشرته السمراء وابتسامته الوديعة، يا إلهي إنه صديق عزيز لم ألتقِه منذ سنوات، وسرعان ما أحاطتني ابتسامته بدفء إنساني رائع.
صعدت الحافلة محيياً صديقي، ومتواعداً معه على لقاء بعد يومين، ولأنني لم أرد صرفه عن عمله أو تعطيل صعود الركاب الآخرين أو إثارة ريبة من باتوا يرتابون في الناطقين باللغة العربية ذهبت إلى نهاية الحافلة بحثاً عن مقعد.
عاودت من الخلف النظر إلى صديقي الذي درس مهنا عديدة، ولم يستسلم أبداً لصعوبات الحياة التي لاحقته ولاحقت أسرته، بل واجهها بإرادة مبهرة على العمل وإصرار على التعلم ورغبة مشروعة في البحث عن سبل لتوفير معيشة كريمة ومتوازنة لأطفاله مزدوجي المزاج والجنسية بين المصرية والألمانية.
نظرت إليه طويلاً، هناك حيث قمرة السائق تبدأ الدنيا، هناك تحل بركة السماء على اليد العاملة التي تصنع لمن حولها الحياة ولا تخشى سوى التوقف عن الاجتهاد والمحاولة، هناك تتجسد حقيقة رب الأسرة المكافح والمسؤول دون رتوش زائفة، ومن هناك يأتي دفء إنساني وجمال فطري يغرقان الحافلة وركابها في ضياء ينير طرقات المدينة رمادية النهار.
“3”
بعد يومين من قدومي برلين، طلب مني ولدي لؤي بعد عودته من اليوم الدراسي أن نتحدث على انفراد، هو يقترب بسرعة من مرحلة المراهقة، وطلبات الحديث معي بعيداً عن الآخرين تتراجع بلا رحمة، والإسهام في تربيته دون التورط إن في إصدار الأوامر والنواهي أو في التفتيش عن الأسرار الصغيرة لحياته بات تحدياً لا يستهان به يستدعي القراءة المستمرة والحوار مع الأصدقاء والاستئناس برأي متخصصين في تربية المراهقين الذين تتملكهم رغبات ومخاوف ومشاعر يتقلبون بين حديث عنها وكتمان لها.
لم أدرِ ماذا أتوقع.
جاء حديث لؤي هادئاً كعادته، أخبرني أن بعض أقرانه في فصله المدرسي يرددون سخافات عنصرية عن العرب والمسلمين ويواجهونه بها، منهم من يقلدون بصوت مرتفع مشاهد القتل والذبح التي فرضها مجرمو داعش على وسائل الإعلام في ألمانيا وغيرها، يفعلون ذلك وهم يرددون عبارة الله أكبر.
منهم من يطلق التعليقات السلبية إن بشأن الرجال العرب الذين يفرضون الحجاب على النساء والبنات، أو بشأن اللاجئين الذين يعتدون جنسياً على من تقع عليهن أياديهم من الألمانيات، منهم من يأتي إلى حوش المدرسة بنكات سمجة عن الأفارقة والعرب والمسلمين والصينيين وغيرهم، تقال فتتعالى الضحكات، وبعد الشرح، سأل لؤي عما ينبغي عليه فعله في مواجهة عنصرية بعض الأقران، ثم وجّه نظره إليّ دون أن يفارقه التعبير الهادئ.
قبل التطوع بالرأي والنصيحة، سألت لؤي تفاصيل إضافية، فالمدرسة التي يذهب إليها هي مدرسة مزدوجة لغة التعليم؛ حيث تستخدم اللغة الإنكليزية واللغة الألمانية في المقررات الرئيسية، كما يتعلم بها الطلاب لغتين أخريين بدءاً من السنة الدراسية السابعة (اختار لؤي الفرنسية والإيطالية)، والجسد الطلابي بها يتسم بالتنوع العرقي والديني واللغوي؛ لذا، وعلى الرغم من إدراكي أن العنصرية كان مآلها أن تفرض قبحها على أولادي لا محالة، فإنني أردت أن أفهم بدقة مدى انتشارها وهوية المشاركين في ترويجها وتعامل إدارة المدرسة معها، وكذلك تعامل لؤي معها قبل حديثه معي.
قال لؤي إن السخافات العنصرية تتردد في ردهات المباني المدرسية وممرات ملاعب الرياضة، كما في الحوش والمطعم العام، قال إن من يرددونها هم قلة، وإن بينهم من يملكون أسماء عائلات ألمانية تقليدية، ومنهم من جاءت أسرهم من بلدان أوروبية أخرى. وقال إن العدد الأكبر من الطلاب لا يعير هؤلاء وسخافاتهم الكثير من الاهتمام، والبعض خاصة من الطالبات يرفض أن تردد النكات والتعليقات العنصرية في حضورهن، وقال إن الأمر يرتبط في فصله المدرسي قبل أي شيء آخر بطالب وحيد يبحث دائماً عن الظهور الصادم، واعتاد أن يصرخ بصوت مرتفع “الله أكبر”، ويتبع ذلك بسخافات عن العرب والمسلمين يشعر معها لؤي أنه المستهدف منها، قال إنه تحدث مع أصدقاء وأقران في الأمر، وإن صديقة “مقربة” عرضت أن تذهب إلى المعلمة المسؤولة عن فصلهم لتخبرها وتطلب تدخلها، وإنه رفض ذلك؛ لأنه لا يريد أن يتوارى وراء صديقته، قال سريعاً إنه لا يعلم شيئاً عن دور إدارة المدرسة، ثم تذكر أن المدرسة بطلابها ومعلميها وإدارييها دعيت منذ بضعة أشهر إلى نقاش عام حول قضايا اللجوء والعنصرية في المسرح المدرسي، وأن مدير المدرسة شدد خلال النقاش على ضرورة مواجهة انتشار المشاعر السلبية بشأن اللاجئين الذين شردتهم الحروب ولا يريدون سوى النجاة من القتل والظلم والاستبداد، وكذلك ضرورة رفض الصمت على العنصرية بكافة أشكالها دون تورط في تبرير جرائم وممارسات سلبية قد يرتكبها بعض اللاجئين مثلما يرتكبها أيضاً بعض المواطنين الألمان.
شكرت لؤي على الحديث معي في الأمر، وعلى كل ما ذكره من تفاصيل، قلت له إن انزعاجه مبرر، وإن السخافات العنصرية لا ينبغي الصمت عليها أبدا حتى وإن جاءت من طالب وحيد، قلت إن إحساسه أنه هو المستهدف له أيضاً ما يبرره حين تأتي السخافات من طالب يشترك معه في الفصل المدرسي، ولأن هويته المزدوجة المصرية الألمانية معلومة لمن معه وسهلة الإدراك حين يسمع اسمه، قلت إن الصمت على العنصرية، سخافاتها وتعليقاتها ونكاتها، يمثل خطوة البداية لإطالة عمر هذا الوباء الذي يجتاح العالم ويستغل مخاوف الناس بشأن مقومات الحياة وهواجسهم من الغرباء لنشر الكراهية.
شجعته على الحديث مع الأصدقاء والأقران بشأن الأمر والبحث عن سبل للسيطرة عليه فيما بينهم، شجعته على طرح وجهة نظره بهدوء يشرح خطأ تعميم اتهامات الإرهاب والعنف وقهر النساء على العرب والمسلمين، هدوء ينقل لمن معه خبرته في مصر بين أهله وبين عموم الناس الذين دوماً ما قدر طيبتهم، قلت له إنه الحديث في الأمر سيدين من يروجون للعنصرية، وسيدين أيضاً من يتورطون في القتل وإسالة الدماء والعنف باسم الدين كمجرمي داعش، ومن يرتكبون جرائم الاعتداء الجنسي وجرائم قهر النساء وجرائم أخرى من بين العرب والمسلمين في بلداننا، ومن يرتكبونها من اللاجئين أو المواطنين في ألمانيا. قلت إن رفض الصمت على العنصرية يستدعي بذات الدرجة رفض الصمت على ما يحدث باسم الدين من جرائم ورفض عدم التزام البعض بقوانين البلاد التي قدموا إليها بحثاً عن الأمان وإدانة كافة أشكال إهدار كرامة الناس وحقوقهم وحرياتهم.
قلت له، خاتماً ما حاولت صياغته مبتعداً عن لغة النصيحة التقليدية، إنه ليس بغريب هنا في ألمانيا وإنني فخور برغبته في الدفاع عن حقوقه دون صمت على سخافات تزعجه، وإن هويته المزدوجة المصرية الألمانية تضع عليه عبء ومسؤولية مواجهة بعض السخافات العنصرية مثلما تمكنه من الانفتاح على تنوع ثقافي لا يتاح لكافة أقرانه.
تواعدنا على العودة إلى الحديث عن العنصرية بعد أن يناقش الأمر مع الأصدقاء والأقران، وبعد أن أتحدث أنا مع معلمته المسؤولة عن الفصل لكوني أثق أنها تدرك ما يجري ولديها رؤية عن سبل التعامل معه.
في صباح اليوم التالي، تواصلت مع المعلمة التي أخبرتني أن فصل لؤي سيذهب إلى مسرحية تعالج قضيتي اللجوء والعنصرية خلال أيام وأن العرض المسرحي سيتبعه نقاش عام. وفي المساء، عاد لؤي من يومه الدراسي ليخبرني بأنه شرع في المواجهة، بحديث هادئ مع الأصدقاء والأقران في فصله عن تكرر السخافات العنصرية. قال إنه يدرك أن الأمر لن يتوقف بسرعة، إلا أنه يشعر بارتياح لكونه عبر عن أفكاره بحرية ولكون الأمر بات قضية عامة لا تشغله هو وحسب.
ما أجمل الوعي بالحق والحرية وحتمية العيش المشترك ومواجهة الكراهية بالحوار حين يتبلور في سنوات العمر الأولى! وما أجمل احترام قيم العمل والكفاح والاجتهاد من أجل حياة كريمة.