مهما امتازت الحقيقة بمرارتها، إلا أنها لم تكن يوما أشد مرارة، فبينما تعتقد أنظمة عربية بأنها تدافع عن كياناتها المتهالكة الهشة باستماتة حد محاصرة شعوبا عربية كاملة، لا تدرك بعد أنها كأنظمة حين تنازلت للشيطان عن مبادئها القليلة المتبقية، فهي صادقت بذلك أيضا على إعدام نفسها وفنائها، لكن كيف حدث ذلك ومالدليل عليه؟.
في يوليو الماضي احتفل نادي الصحافة القومي الأمريكي بالذكرى الثانية لرحيل عميدة مراسلي البيت الأبيض “هيلين توماس” وهي أول إمرأة تتولى منصب رئيس نادي الصحافة الأمريكي، توماس تلك الصحفية المخضرمة التي عرَّت الولايات المتحدة الأمريكية وفضحتها حين قالت عبارتها الشهيرة التي مُنعت بكل الطرق من أن تتسلل إلى العلن “الدول العربية ستزول بالكامل”.
هيلين توماس التي عاشت لسن الخامسة والتسعين، والتي رافقت أهم رؤساء أمريكا بدءً بالرئيس “جون إف كيندي” قالت عنها الصحافة الأمريكية عشية تأبينها بأنها “أجرأ صحفية في تاريخ الولايات المتحدة” لها العديد من الكتب وكان آخرها والأكثرها إثارة للجدل كتاب “كلاب حراسة الديمقراطية؟” “?Watchdogs of Democracy” والذي انتقدت فيه دور وسائل وشبكات الإعلام الأمريكية في فترة رئاسة جورج بوش، حيث وصفت وسائل الإعلام الكبرى منها على وجه الخصوص بأنها تحولت من “سلطة رابعة وكلاب تحرس الديمقراطية ومراقب على الديمقراطية” إلى “كلاب أليفة” توماس التي انتقدت عبارة الرئيس جورج بوش اﻹبن حين قال “أن حربه على العراق من أجل الله والصليب” حين قالت “بل إنها حرب الشيطان وليست حرب الله”.
وقبل رحيل توماس بعدة أيام كتبت مقالة للنشر في كبريات الصحف الأمريكية، وفي سابقة لها تم رفض المقالة من النشر، لكنها توماس العنيدة والجريئة وقفت تصرخ أثناء إلقائها لمحاضرة بنادي الصحافة قائلة “اليهود يسيطرون على إعلامنا وصحافتنا ويسيطرون على البيت الأبيض، أنا لن أغير ما حييت ما آمنت به طوال حياتي، اليهود يحتلون فلسطين، هذه ليست بلادهم، قولوا لهم ارجعوا إلى بلادكم واتركوا فلسطين ﻷهلها، إنني أرى بوادر حرب عالمية ثالثة تطبخ في مطابخ تل أبيب ووكالة اﻹستخبارات الأمريكية، والشواهد عديدة، أول خطوة ظهور تنظيمات إرهابية بدعم أمريكي، لا تصدقوا أن واشنطن تحارب اﻹرهاب واﻹرهابيين ﻷنهم أصلا دمية في أيدي السي آي إيه”.
وأضافت “إنني أرى أن بريطانيا تستحضر في اللحظة روح البريطاني “مارك سايكس” وأن فرنسا تستحضر روح الفرنسي “فرانسوا بيكو” وواشنطن تمهد بأفكارها الشيطانية الأرض لإعادة تقسيم الدول العربية بين ثلاثتهم، وستأتي روسيا لتحصل على ما تبقى من وراء هؤلاء الثلاثة، صدقوني إنهم يكذبون عليكم ويقولون “أنهم يحاربون اﻹرهاب نيابة عن العالم وهم صناع هذا اﻹرهاب واﻹعلام يسوق أكاذيبهم، وهذا اﻹعلام يمتلكه يهود إسرائيل”.
لقد أثارت هيلين توماس عاصفة من الهيجان الصهيوني المحموم والمسعور بعد أن قالت هذه العبارات النارية الصادقة، حيث طالب وقتها رئيس وزراء دولة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو بمحاكمتها بتهمة معاداة السامية، لكنها أفسدت عليه الأمر حين رحلت تاركة خلفها عباراتها تلك مدوية محفورة على صفحات التاريخ.
عزيزي القارىء، كثيرا ما كنا ننادي في مقالات سابقة بأن اﻹرهاب الذي يضرب في كل مكان بدءً بحوادث باريس، ثم حوادث سيناء والعريش والقاهرة واﻹسكندرية، مرورا بحوادث الولايات المتحدة وحوادث لندن ومانشيستر وروسيا وليبيا وسوريا والعراق وتونس، نادينا بأن التنظيمات اﻹرهابية لا يمكن لها أن تقوم بكل هذا العنف والقتل الواسع اﻹنتشار بمفردها! وأن هناك أجهزة إستخباراتية عالمية تدعمها وتقدم لها كل التسهيلات اللازمة لتنفيذ هجماتها بكل فاعلية ولتتيح لها أن تشيطن نفسها وتشعل المنطقة العربية بالكامل دافعة إيها نحو إشعال الفتن والفرقة والنزاعات ومن ثم الحروب، ومن خلفها خداع الرأي العام في الغرب لدعم تلك الحروب المزعومة على الإرهاب المزعوم.
والمستفيد الأول طبعا هي الصهيونية وباقي القوى التي وراء كل هذا الشر وهذه الفوضى، القوى التي تسعى ﻹعادة الإستيلاء على المنطقة وتقاسمها بسايكس بيكو جديد، حيث ظهر ذلك جليا من خلال تصريحات رئيس اﻹستخبارات المركزية الأمريكية السابق “جيمس وولسي” حين صرح قائلا “المنطقة العربية لن تعود كما كانت، وسوف تزول دول وتتغير حدود كانت موجودة”.
وكل يوم نسمع تصريحات من المسؤولين الصهاينة حول حث الدول -وخاصة العربية ضمن ما أطلق عليه التيار المعتدل- حثها على محاربة اﻹرهاب والتصدي له، وها هي دولة الكيان الصهيوني تشارك بالحرب المزعومة على اﻹرهاب في سيناء لضمان نظافة حدودها هناك، وتقوم بغارات على الأراضي السورية، وصرح مؤخرا “نتنياهو” قائلا “المنطقة العربية على صفيح ساخن، ونحن لن نقف مكتوفي الأيدي، وها نحن ننسق مع أجهزة اﻹستخبارات في الدول الكبرى للقضاء على اﻹرهاب وسوف نتعاون معهم لمحاربة اﻹرهاب حتى لو اندلعت الحروب لنضمن حماية دولتنا”.
هذا بالضبط ما تنبأت به هيلين توماس عزيزي القارىء، فشبح التنظيمات اﻹرهابية خرج بالفعل من مطابخ تل أبيب وواشنطن لتُدخل المنطقة في أتون الحرب المدمرة لصالح
ميكنة الحرب الأمريكية واستمرارها وأمن وأمان دولة الكيان الصهيوني وبقاء بعض الأنظمة العربية المتعاونة على حساب دول عربية أخرى ستختفي وحدود جديدة وكيانات غريبة ستظهر، فلنتنبه إلى ذلك قبل فوات الأوان يا أيها الشعوب العربية العريضة التي ما زالت تؤمن بأنظمة هشة لا يهمها سوى الكراسي ومصالح البطائن الفاسدة التي تحميها إلى حين.