قس على ذلك عشرات الأعراس، والعزاءات، والزيجات، والأرحام التي ستقطع بين دول هي في الحقيقة عبارة عن أبناء عمومة لا فواصل بينهم تذكر.
صديقي العزيز قطري الجنسية، وزوجته سعودية، وطبقا للقرارات الأخيرة بمقاطعة قطر، أصبح مطلوبا من زوجته أن تهجره، وأن تترك أطفالها الثلاثة (وفيهم طفل رضيع عمره عدة أسابيع)، وأن تذهب للمملكة السعودية وحدها، دون أطفالها (لأنهم يحملون الجنسية القطرية كأبيهم)، وإذا لم تفعل تلك الزوجة ذلك فسوف يعاقبها نظام جلالة الملك سلمان عقوبات شديدة، قد تصل إلى المنع من السفر لعدة سنوات!
إن قرارات المقاطعة التي اتخذتها المملكة السعودية ودولة المؤامرات العربية المتحدة (وذيولهما)…ليست قرارات قابلة للتنفيذ، بل هي قرارات مؤقتة لها هدف لا بد أن يتحقق سريعا، وإذا لم يتحقق هذا الهدف…ستصبح هذه القرارات مشكلة وعبئا على من اتخذها، ولن يستطيع أن يمنع الناس من مخالفتها، وإذا استطاع…فسوف يحكم على نفسه بسخط شعبي لا مثيل له في تاريخ هذه المنطقة.
بعد عدة أيام من الإصرار على تنفيذ هذه المقاطعة رأينا جنازات تقام دون الأقارب، ورأينا أطفالا يفرق بينهم وبين آبائهم أو أمهاتهم، ورأينا أرحاما تقطع، وأحقادا تزرع.
في الوقت نفسه قامت دولة قطر بالعكس تماما، فقامت جميع الكليات والمؤسسات التعليمية بتعجيل امتحانات الطلبة الخليجيين لكي لا يضيع جهدهم الذي بذلوه خلال عام دراسي كامل!
نفس الشيء فعلته الخطوط الجوية القطرية مع جميع المسافرين من جميع الجنسيات، تحملت تكلفة توصيلهم إلى مطاراتهم دون تحميل أي أعباء عليهم.
من الصعب أن يكتب المرء عن موضوع تتغيّر فيه الأحداث كل عدة ساعات، وأحيانا كل ساعة، أو أقل من ساعة.
وسأحاول في هذه المقالة أن أشرح للقارئ الكريم باختصار قصة الأزمة القطرية، وإلى أين يمكن أن تصل.
في البداية لا يمكن لأي عاقل أن يتصوّر أن سبب الأزمة هو ما يزعم صانعوها من كلام نُشر على لسان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فالأزمة مصنوعة بعناية، ومرتب لها بكل تفاصيلها، صحيح أن الأزمة تسير في مسار آخر غير الذي رُتب لها، ولكن ذلك لا ينفي أنها أزمة مصنوعة بكل دقة.
ومع الوقت بدأت أسباب أكثر معقولية بالظهور على السطح، مثل ما قاله السيد الجبير وزير خارجية السعودية من أن قطر لا بد أن تتوقف عن دعم حماس !
من الواضح أن المطلوب من دولة قطر ببساطة هو الخضوع التام لكل ما يريده اللوبي العربي الصهيوني.
إن دولة قطر تدفع ثمن تمردها الدائم على المنظومة العربية المتكلسة، وتدفع ثمن وقوفها مع ثورات الربيع العربي، وتدفع ثمن وقوفها مع الأنظمة المنتخبة، ووقوفها ضد العصابات المنقلبة.
إسكات صوت قطر وقواها الناعمة هو تمهيد لصفقة القرن، تلك الصفقة التي سيتم فيها تبادل الأراضي بين نظام العميل عبدالفتاح “سيسي” وبمباركة صهاينة العرب، وبين الكيان الصهيوني المحتل، لتوطين الفلسطينيين في أجزاء من سيناء، ضمن كيان منزوع السلاح، مع التنازل عن كل شيء، بما في ذلك حق العودة والقدس…وكفى الله الصهاينة شر القتال.
لا مجال في تلك اللحظة لقناة تفضح، أو لدولة تتيح لحركة مقاومة مثل حماس أي مجال، أو عاصمة تؤوي بعض المعارضين لمثل هذه الصفقة، المطلوب هو السكوت التام.
حين أعلن السعوديون والإماراتيون (وأذنابهما) المقاطعة رفضت دولة قطر الخضوع للابتزاز، وامتصت الصدمة في زمن قياسي يدعو إلى الإعجاب.
هذا التعامل مع الأزمة يوحي بأن صانع القرار القطري كان جاهزا بسيناريوهات لحالة الحصار، ومن الواضح أن هذه الجاهزية كانت بسبب أزمة سحب السفراء عام 2014.
الذين جهزوا المؤامرة كانت خطتهم الأصلية أن ينهار النظام القطري وأن يستسلم بسبب التصعيد خلال يوم أو يومين، ولكن صمود النظام القطري وحملته الإعلامية المضادة (والتي تميزت بالمهنية والاحتراف دون إسفاف) تسببت في تغير مسار الأحداث.
لذلك بدأ المتآمرون بإجراءات مضحكة لا تأثير لها، إجراءات توحي بالاضطراب والتخبط، فلا معنى ولا فائدة من قطع “موريتانيا” و”جيبوتي” علاقاتها مع قطر!
المال يتحدث…وشراء المواقف دأب أنظمة عربية منذ سنوات طوال.
إن قطر بلد صغير مقارنة بمجموع الدول التي تحاول النيل منه، ولكنه يملك مميزات كبيرة من أهمها … تماسك الجبهة الداخلية، على المستوى الشعبي، وعلى مستوى الأسرة الحاكمة.
ومن الواضح أن لوبي الصهاينة العرب لم يتمكن من العثور على خائن واحد في عائلة (آل ثاني) لكي يستخدموه في النيل من شرعية الأمير تميم بن حمد.
ولم يتمكنوا كذلك من إشاعة حالة من الفوضى والفزع في هذا البلد الصغير، وذلك بسبب الأداء المحترف من الدولة في التعامل مع الأزمة.
الوضع الآن في صالح دولة قطر، ولا يوجد أي وسيلة لإخضاع هذا البلد سوى بعمل عسكري مباشر، وهو أمر صعب في ظل وجود قاعدة العديد العسكرية الأمريكية.
الرئيس “ترامب” يغرد وحده بتأييد ما تفعله المملكة السعودية والإمارات، ولكن المؤسسات المسؤولة (البنتاجون والخارجية) ضد توجهاته الرعناء.
وسبب عدم انجرار هذه المؤسسات خلف راعي البقر الأهوج هو الحفاظ على المصالح الأمريكية على المدى البعيد، ذلك أن حدوث غزو عسكري في بلد يستضيف قاعدة عسكرية أمريكية سيكون له أثر كبير على جميع القواعد الأمريكية، وجميع الدول التي تستضيف هذه القواعد.
في حالة لجوء الأنظمة المحاصرة لقطر للعنف، أو محاولة تغيير النظام القطري بالقوة العسكرية – هو أمر لا يتمناه أي عربي وطني – فستكون تلك نهاية النظام السعودي، والإماراتي، والكويتي، والأردني، والعماني، والمغربي … وجميع الأنظمة الملكية في المنطقة.
إنه حكم بالإعدام على هذا الشكل من أشكال الدولة، وستملك إيران ذريعة لتغيير نظام الحكم في مملكة البحرين مثلا، وسنرى تدخلات بالعنف في العديد من الدول الملكية…كل ذلك بعد أن تكرم صهاينة العرب بعمل سابقة قد تؤدي إلى فوضى عارمة في المنطقة.
في الغالب ستظل هذه الأزمة خارج حدود الاشتباك العسكري، ولكن ذلك لا يعني أن هناك إمكانية لعودة المياه لمجاريها…لقد كانت هذه الأزمة نهاية فصل في التاريخ، وبعد انتهاءها سيبدأ فصل جديد، فصل ليس فيه “مجلس التعاون الخليجي”، وفيه تغير كامل لشكل العلاقات العربية العربية، وفيه تحالفات اقتصادية وعسكرية مختلفة عما هو موجود الآن، تحالفات غير متجانسة، لن تطول، ولكنها ستملأ فراغ الوقت حتى تتحرك الشعوب العربية لتغير هذه الأنظمة التي لا تتورع بسبب ولاءها لإسرائيل عن أن تفرق بين المرء وزوجه، وأن تحرم الأطفال الرضع من حليب أمهاتهم.
في النهاية … طالما ظلت هذه الأزمة في حدود الحصار الاقتصادي فسوف تسير الأزمة في صالح دولة قطر، وسوف يجلس أميرها على طاولة مفاوضات بعد عدة أسابيع أو عدة شهور وهي في وضع يسمح له بسقف تنازلات محدود، وهامش مناورات واسع … إلا إذا استطاع جلالة الملك سلمان أن يربي أطفال صديقي المواطن القطري الذي تحدثت عنه في بداية المقالة … حينها سيكون موقف المملكة أقوى بكثير !
أما ما أثاره بعض المحسوبين على الثورة المصرية في شأن هذه الأزمة، من أن الأزمة القطرية الخليجية لا علاقة لنا بها، ولا علاقة لها بالربيع العربي، وأن قطر بلد رجعي يدعم جميع المشاريع الرجعية في المنطقة … وإلى آخر هذا الكلام الفارغ … فربما أرد عليه في مقالة قادمة إذا اتسع الوقت.
نسأل الله أن يحفظ قطر، وأن يخسأ صهاينة العرب، وأن يجمع الشمل، وأن يرزق هذه الأمة قيادات ولاؤها للوطن لا لأعدائه.