بوجهه المتجهم، كعادته عندما يحاول أن يبدو صارما، ويريد أن يجعل الجمهور يشعر أنه يقول كلاما مهما، قال عبد الفتاح السيسي، بصراحةٍ يُحسد عليها، إن من يتحدّاه يتحدّى حقاً من حقوق الله عز وجل في الأرض. يتصاعد يوما بعد يوم مثل هذا الخطاب من السيسي، فوفقا لشواهد وعبارات عديدة قالها قبل ذلك، فإن السيسي يعتبر نفسه رمزا للدولة والجيش، ومبعوثا من العناية الإلهية إلى مصر، وقد سبق أن خاطب الله عز وجل أمام الناس، قائلا “أنا بقوله يا رب ظروفنا صعبة وحضرتك تساعدنا.. يا رب حضرتك تساعدنا”.
أما عن توحد السيسي مع الدولة والجيش، فعلى سبيل المثال تصريحه في العام الماضي بأنه لا يوجد شيء اسمه “نظام”، وإنما هناك “دولة” تواجه خطر السقوط، وبالتالي اعتبر السيسي أي هجوم على نظامه هجوماً على الدولة. حتى إنه، في إحدى المرات، قال إنه لا ينبغي لنا أن نكسر بخاطر مصر، وكأن الهجوم عليه أو إسقاطه كسر بخاطر مصر. وفي أكثر من مناسبة، عبر السيسي عن نفسه بأنه أحد أبناء الجيش المصري، وبالتالي فإن أي أمر خاص بالجيش يهمّه هو شخصيا.
وفي خطابه في أثناء الاحتفالات بذكرى “30 يونيو”، في دار الأوبرا المصرية، تقمص السيسي روح “مصر”، قائلا إنه محمل برسالة من مصر إلى المصريين، وإنها (مصر) تقول لهم إنها أمانة في رقبتهم، وإنهم يجب أن يعتنوا بها! ودعاهم إلى عدم الأكل أو النوم حتى تعود مصر (التي يتحدث بلسانها) إلى مكانتها الحقيقية. وفي أثناء زيارة سابقة له إلى ألمانيا، خاطب السيسي المصريين، قائلا إن مصر كانت على وشك الوقوع، إلا أنه سارع إلى إنقاذها ومنعها من الوقوع، طالبا منها الانتظار وعدم السقوط! وتصل تلك المشاعر لدى الرجل إلى ذروتها، عندما رد على الانتقادات بعد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، إذ عاتب السيسي المصريين، قائلا إنهم كان يجب عليهم أن يطمئنوا عليه، بدلا من التساؤل عن مصير الجزيرتين، أي إنه يرى نفسه أهم من أي موضوع متعلقٍ بأرض مصر وأمنها القومي وحدودها.
توحّد السيسي مع منصبه وكرسيه كذلك جعله يرى نفسه متفرّدا عن أي شخص آخر في مصر، وجعله متخوفا وحذرا من أفراد الدائرة المحيطين به كافة. ولذلك رأينا مثلا أحد حرس الرئاسة يفصل بينه وبين شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في أثناء أداء صلاة الجمعة في مارس/ آذار من العام الماضي. كما كان هناك ما لا يقل عن سبعة من أفراد الحرس الجمهوري في الصف الثاني حرسا للسيسي، على الرغم من أن كل الحاضرين من العسكريين، ضباطا وجنودا، فضلا عن حارس آخر للسيسي تسبب في الفصل بين وزير الدفاع، صدقي صبحي، ومن هو عن يساره، وهو وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة الذي يقال إن هناك خلافات حادة بينه وبين شيخ الأزهر. وفي حفل تخرج الكلية الحربية في 2016، وضع حرس السيسي منضدةً تفصل بينه وبين وزير الدفاع صدقي صبحي في مشهد يحدث لأول مرة.
وعندما زار السيسي سيناء، كان لافتا وجود حرس خاص للسيسي يقف أمام القادة العسكريين الكبار، رافعين أسلحتهم في مواجهتهم، في مشهد غريب وغير مسبوق. أما عندما يكون السيسي في مكان مفتوح، فإنه يحرص على وضع زجاج مضاد للرصاص أمامه لحمايته.
وعندما أراد أن يظهر بمظهر الرئيس الحنون المتعاطف مع الغلابة، وقام بتمثيل أحد المشاهد المسرحية المعتادة منه، عندما توقف ليسقي سيدة مسنة قطرات من المياه، فضحت الكاميرا جذب الحرس الشخصي للسيسي السيدة من رأسها بعنف، حتى لا تقترب أكثر من اللازم من صاحب الفخامة، وكأنه مقدّس لا يجب لمسه، وهو ما فعله الحرس مع مترجم المدير الفني للمنتخب الوطني لكرة القدم، عندما حاول أن يتقدّم ليترجم ما يريد أن يقوله السيسي إلى المدير الفني والعكس، فقد أمسك به الحرس بقوة، حتى لا يتقدم ويقترب من السيسي، ويبدو أن الأخير اكتشف أنه لم يفهم شيئا من حديث المدرب الأرجنتيني (بالتأكيد لا يجيد اللغة الإسبانية)، كما أن إتقانه الإنجليزية محل شك كبير، فأمر الحرس بالسماح للمترجم بالتقدم.
يظهر حرص السيسي على إبعاد نفسه عن المصريين والإعلاء من ذاته، وربطها بالدولة والجيش والإرادة الإلهية، جليا في موكبه الذي يعتبر الأضخم على الإطلاق ضمن مواكب رؤساء مصر السابقين، إذ يتكون من 19 سيارةً بالإضافة إلى 22 دراجة نارية. كما تغلق قوات الأمن الطرق التي يسير فيها موكبه بصورة كاملة، وتمنع المواطنين من المرور فيها أو حتى بجوارها، وتعتدي على كل من تسوّل له نفسه الاقتراب، وهو ما حدث في أثناء الانتخابات الرئاسية، عندما اعتدت قوات الأمن على مراسل إحدى القنوات، فما كان من السيسي إلا أن حاول تقمص دور الرئيس الحنون، فأعاد نظارة المراسل المكسورة إليه مرة أخرى، بعد أن هشمها الحرس. وقد أغلقت قوات الأمن مداخل محافظة أسوان ومخارجها بالكامل، عند زيارة السيسي لها في يناير/ كانون الثاني الماضي. وقد وصل هوس السيسي إلى درجة كتابة شعاره الانتخابي “تحيا مصر” على طائرته الرئاسية التي يتوجه بها إلى الخارج، كما كتب الشعار نفسه على الطائرات الحربية التابعة للقوات الجوية المصرية، في مشهد يعيدنا إلى كوريا الشمالية والعراق في عهد صدام حسين، وليبيا في عهد معمر القذافي، وسورية في عهد الأسد الأب والابن.
ويبدو أن وزير السياحة السابق، هشام زعزوع، عرف ذلك الجانب من شخصية السيسي، بعد أن اقترح وضع صور للأخير في الحملة السياحية على شبكة الإنترنت بعنوان “هذه هي مصر”، وأعلن أن السيسي وافق. وبالتأكيد، لاقى هذا الاقتراح هوى في نفسه. وهو ما فعلته أيضا إدارة أحد الأحياء في محافظة الإسكندرية، عندما نشرت صورة للسيسي يضحك، مكتوبا تحتها “تعيشي يا ضحكة مصر”.
يُنذر هذا التصاعد في رؤية السيسي نفسه، وتوحده مع العناية الإلهية والدولة والوطن والجيش والشعب، بمخاطر جمة على المصريين الذين سيجدون أنفسهم متهمين بالخيانة والكفر، إذا اعترضوا على أيٍّ من سياسات السيسي الكارثية، فمن يجرؤ على تحدي “حقٍّ من حقوق ربنا في الأرض”، كما قال بنفسه أخيرا؟ خصوصا مع تصاعد السخط الشعبي من سياسات النظام الحمقاء، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. المصريون إذن مقبلون على أيام صعبة مع السيسي.