(1)
سافرتُ مرة واحدة في حياتي، في سبعة وثلاثين عامًا هي عمري حتى الآن، كان ذلك لأداء العمرة في العام 1997، مررت بالأردن وصولاً إلى السعودية ثم رجعت بعد فراغي من العمرة، ثم اعتقلت في العام الذي يليه لدى العدوّ المحتل، ومنذ ذلك العام، أي منذ العام 1998، وأنا ممنوع من السفر.
هذه الرحلة الوحيدة التي خرجتُ فيها من فلسطين مسافرًا؛ لم تكن أبدًا كافية لتكوين تصورات يمكن الاطمئنان إليها عن العرب خارج فلسطين، وقد بدأت أدرك متأخرًا أن هذه واحدة من مشكلاتي المعرفية في الحياة، بعدما كنت أظنّ أن منع السفر غير مؤثر من هذه الناحية.
في مقالتي السابقة في مدونات الجزيرة، قلتُ إن مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد العربية، وفي بلاد خليجية بعينها، تعاني من قدرة السلطة السياسية التي تمددت إليها حاملة معها البؤس والرعب والسطوة والهيمنة، وقد فرّخت فيها مخبري اللجان الإلكترونية، فلم تعد -أي تلك المواقع- قادرة على إبراز التنوع، وإظهار الحقائق.
بيد أنه لا مناص من التعامل معها، رغم فخّي الانطباعية والتعميم، فلم تترك لنا تلك السلطات من سبيل آخر.
(2)
لشخص مثلي، لم يُكتب له السفر والاختلاط بغير الفلسطينيين من العرب، لا بدّ وأن تكون شبكة الإنترنت سبيلاً له لمحاولة التعرّف إلى صورته، من حيث هو فلسطيني، في وعي العرب.
ومنذ أن بدأت هذه النافذة تنفتح لي منذ عشرين عامًا تقريبًا، وأنا أجد تصوّرًا مشوّهًا عن الفلسطينيين، وصادمًا لمن لم يكن له سابق معرفة بهذا التصور الذي يتركّز في منطقتين جغرافيتين تقريبًا؛ في الخليج، وتحديدًا في السعودية، وفي مصر. هذا التصور يقول إن الفلسطينيين باعوا أرضهم.
في مصر يمكنك أن تسمع كثيرًا عن حكاية الحروب (الخمس)، التي خاضها المصريون لأجل الفلسطينيين “نكاري الجميل”، أما لماذا زادوا حربًا واحدة على الحروب الأربع التي ضاعت فلسطين في نصفها، ولم يكن نصفها الآخر له علاقة بها، فلست أدري. وفي السعودية يمكنك أن تسمع كثيرًا عن الشعب الفلسطيني الخائن لأفضال السعودية المالية عليه!
مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها، صار حتمًا أن تصطدم كل يوم بحساب عربي في تلك المواقع، مخابراتي أو حقيقي، يتهم الفلسطينيين ببيع أرضهم وبالخيانة وبكل نقيصة، مع إضافة لا بدّ منها، من المنّ والأذى.
ومن الذي يمنّ على الفلسطيني ويؤذيه؟! ذلك الذي خسر حربي 1948 و1967، فضيّع بخسارته فلسطين، ثم استرجع أرضه على حساب الفلسطيني، معترفًا بالعدوّ ومتحوّلاً إلى حليف له، يستمدّ قيمته من علاقته الخاصة بالعدوّ ومن أقدار الجغرافيا التي وضعته على الحدّ الغربي لفلسطين!
(3)
بالرغم من كلّ ما دُبّجت به أدبيات الفلسطينيين عن “القرار الوطني المستقل”، وبالرغم من حقائق تشكّل الهوية الوطنية الفلسطينية في جانب منها في مقابل الهويات العربية الأخرى، فإن الفلسطيني، الجمهور والشعب، لا يتحسس من حضور العربي في شأنه، وهذه ملاحظة، في حدود انطباعي عنّا نحن الفلسطينيين، تستحق -إن صحت- الدرس والنظر، وهذا غالبًا راجع إلى الإيديولوجيا الضمنية لشعب مسيّس، المركبة من عنصري الإسلام والعروبة، ومن سيرورة المأساة الفلسطينية، وتاريخ الكفاح فيها.
في المقابل، تجد حضور الفلسطيني في أي شأن عربي سواه، ولو بالرأي المجرّد فحسب، بالغ الاستفزاز للعربي، ومستدعيًا من العربي سرديّة الاتهامات الجاهزة غير المفكّر فيها أبدًا، عن بيع الفلسطيني لأرضه، وخيانته للعرب، ونكرانه للجميل، وسوف تجد غالبًا، أن هذه السرديّة تتركّز في بلدين؛ مصر والسعودية.
هذا لا يعني أن هذه السرديّة رائجة إلى حد كاسح بالضرورة، أو أنها عامّة مستغرقة لكل النّاس، ولكنها، كما يبدو لي، متركّزة في هذين البلدين على وجه التحديد، مع وجود لها في بلاد أخرى، وإن على نحو أقل، وهو ما يطرح السؤال عن سرّ تركّزها في هذين البلدين!
(4)
ليس من مهمة هذه المقالة، مناقشة هذا الادعاء، ولا الادعاء المقابل عن طهرانية الفلسطينيين، فسجالات الطهرانية التي يشيعها مخبرو السلطات، والمتأثرون بهم من السفهاء، محض انعكاس لوطنيات زائفة وهشّة، فالفلسطيني، كأي شعب آخر، فيه من الأفكار والتيارات والممارسات ما فيه، من أروع مسلكية ثورية مقاومة في بيئة مستحيلة وغير مواتية، إلى مسلكية نقيضة تمامًا.
لا يمكنك أن تفهم بالضبط المقصود من تهمة بيع الفلسطيني أرضه للعدو، إذ إنك تجد مع طول التتبع والنقاش، أن هذه التهمة مشوشة وتفتقر إلى أي قدر من التحديد والوضوح، إذ ثمة فرق بين الدراسات الأكاديمية التي تبحث في الأراضي التي سُرّبت لليهود في النصف الأول من القرن الماضي والجذور العائلية المتعددة لمسرّبي الأراضي من فلسطينية ولبنانية وسورية، نتيجة التداخل الإداري بين مناطق بلاد الشام في الحكم العثماني، وبين تلك الاتهامات التي ترمي الفلسطيني، بلا أي قيد أو استثناء، ببيع أرضه لعدوه.
تكتشف أحيانًا أن المقصود كل الفلسطينيين، وأحيانًا اللاجئين الذين هُجّروا عنوة، بفعل النيران والاحتلال، أو بالفعل المركّب من الفشل والخيانة للجيوش العربية المعبّرة بممارستها تلك عن السلطات التي تقودها، وكأن الشعب الفلسطيني وحده، الذي لجأ بعضه أو نزح بعضه بسبب الحروب.
تتسبب هزيمته بتهجير لفلسطيني ثم يتهمه ببيع أرضه بعدما يطبّع مع عدوّه الذي هجّره!
ثم إنك تكتشف جهلاً مريعًا بحقائق الحروب والصراع؛ وبأن الذي هُزم على الحقيقة، بفعل الفشل والاهتراء أو بفعل الخيانة، هي الجيوش العربية، لأن فلسطين لم يكن فيها دولة، وكان شعبها أعزلاً!
ليست إذن وظيفة هذه المقالة، مناقشة هذا الاتهام المشوش الآن، ولكن الحقيقة أن فلسطين ضاعت نتيجة هزيمة عربية، مغمّسة بالخيانة، لا نتيجة هزيمة فلسطينية.
(5)
لكن السؤل الذي لا يكفّ عن إلحاحه، هو ذلك الذي يُفكّر في سرّ تركّز هذه الفرية في هذين البلدين. فإذا أمكن القول إن إرادة السلطات المصرية المتعاقبة على الخروج من الصراع، والانقلاب إلى الضفة الأخرى منه، تدفعها لاجتراح أكذوبة تسوّل للشعب المصري استساغة ذلك، مع جرعة مكثّفة من دغدغة أوهام العظمة مشبّعة بادعاءات الحروب التي “لم يكن يستحقها الفلسطينيون ناكرو الجميل”؛ إن أمكن قول ذلك، فما الحال مع السعودية؟!
تُثبت الأحداث الأخيرة، ولم يكن لنا حاجة في جديد يثبت، أن تلك التصورات الضالّة، وبصرف النظر عن مستوى رواجها، لم تكن لتنبثق طبيعيًّا في وعي الشعب أو وعي أعداد من أفراده، ولكنها تُحقن في ذلك الوعي، بالإشاعة والمغالطة وبث المخبرين في كل مكان، بما في ذلك تويتر.
انطلق أخيرًا في تويتر وسم #سعوديون_مع_التطبيع بصورة لا يمكن الشكّ في تدبيرها وتنظيمها من يد مخابراتية آمرة، يعيد عناصرها وموظفوها القائمون على الحسابات الوهمية، نشر العبارات المبتذلة ذاتها، والتي ترتكز أساسًا على اتهام الفلسطينيين ببيع أرضهم، مع جرعة مكثفة من المنّ والأذى، عن دعم السعودية للفلسطينيين “ناكري الجميل”!
تخيل.. لكي يبرر تطبيعه المزمع مع عدوّ الفلسطيني يتهم الفلسطيني ببيع أرضه لعدوّه!
إن الذي أطلق هذه الدعاية الآن لحاجة مستجدة بدت له في التعاون مع العدو، هو نفسه، أي السلطة نفسها التي أطلقت الدعاية نفسها على مدار عقود من قبل، لكن إن كان ثمة حاجة الآن استجدت لعهد جديد للسلطة يبحث عن مصالحه وشرعيته وطموحاته لدى العدو، فما حاجة السلطة من قبل لتسميم وعي الشعب بدعاية كهذه!