أما وأن ما جرى في مصر مساء يوم 3 يوليو 2013 كان انقلابا عسكريا، فهذا ما لا يحتاج شرحه جهداً كثيراً، ليس فقط لأن فريقاً أول اسمه عبد الفتاح السيسي، كان وزيراً للدفاع، أطلّ على الناس، ببذلته العسكرية الصيفية، وأعلن إطاحة رئيسه، بل أيضا لأن أي طالبٍ في العلوم السياسية في جامعةٍ محترمةٍ يعرف هذه البديهية. وملحوظٌ في الغرب الديمقراطي أنه فيما الحكومات والنظم القائمة فيه تتعامل مع نظام السيسي من دون اكتراثٍ بقصة الانقلاب هذه، لا تجيز الصحف الكبرى والعتيدة فيه، كما تمثيلات المجتمع المدني هناك، لأحدٍ أن يناقشها في بديهية واقعة “3 يوليو” المصرية انقلاباً عسكرياً. وسيكون الأمر كاريكاتورياً لو أن أياً من طبّالي السيسي وزمّاريه رأى في موقف “نيويورك تايمز” هذا ممالأة لجماعة الإخوان المسلمين.
ولكن، لم يعد هذا الموضوع هو الموضوع، فتسمية “3 يوليو” انقلاباً باتت مسألةً أكاديميةً. ولا شطط في الزعم إن الخصومة المستحقة مع النظام الفاشل هناك ليست لأن انقلابا جاء به، تلته انتخاباتٌ من النوع إياه، وإنما لأنه فاشلٌ وقمعي. وإيضاحاً أزيد، لا حساسية كبرى لدى الشعوب العربية التي تعاني من فقر ظاهر في الثقافة السياسية مع الانقلابات العسكرية لأنها انقلابات عسكرية، فلمّا خلع العقيد إعلي ولد محمد فال الرئيس العقيد معاوية ولد الطايع، استقبل الموريتانيون الحدث بترحاب، كما فعل السودانيون غداة انقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب على جعفر نميري. وبمقدارٍ من الخيال السياسي، يمكن الاجتهاد أن سورية، في كارثتها الراهنة، تعوز انقلاباً عسكرياً، بعد أن استعصت كل إمكانات تحقّق أي تسوية أو حل، باتجاه الذهاب إلى “هيئة حكم انتقالي” بعد خروج الأسد وجماعته من السلطة، ففي وسع ضباط واعدين أن ينجزوا عبورا إلى هذا الأمر، لو سنحت لهم فرصةٌ ما لإجراء انقلابٍ “انتقالي”.
ولا غلط في القول إن ثورة 23 يوليو 1952 في مصر ما استحقّت تسميتها هذه إلا لما أنجزه الحكم الذي أقامه “الضباط الأحرار”، بعد إطاحتهم الملك وإقامتهم الجمهورية، من حقائق على الأرض انعكست على المواطن المصري، في مقادير وازنةٍ من العدالة الاجتماعية، وفي إصلاحاتٍ ثورية الطابع على غير صعيد، في بنية الدولة عموماً، وإنْ تمت التضحية كثيراً بحرياتٍ عامة غير قليلة. وكان في وسع نظام السيسي، لو كان مؤهلا، وذا خيالٍ سياسي، وصاحب مشروع إقلاعٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ واجتماعي في البلد، أن يصنع شيئا من هذا، فيحوز على قناعةٍ حقيقيةٍ من المصريين به، من دون حاجةٍ إلى مهرجانات المباخر وطقوس التبجيل المرتجلة ومباذل الإعلام إياها. لم نكن سنكتب اليوم في الذكرى الرابعة لانقلاب 3 يوليو عنه انقلاباً، بمقدار ما كنّا سنعتني بما أنجز النظام وأضاف وأعطى، وبما استشعره المصريون من تحسّن ظاهر في مستوى معيشتهم، ورفع سويّة التعليم في بلدهم، ونقصان الفساد، وضبط للبطالة، وسيطرة على الأسعار، وتخفّفٍ من الارتهان الاقتصادي للخارج ومساعداته وعطاياه، وغير ذلك مما احتاجته مصر عندما صارت ثورة 25 يناير، قبل عامين ونصف العام من “3 يوليو”. وربما كنا سنفعلها، و”نتسامح” مع بعض الغلظة الأمنية، لو أن مصر أخذت منحى السير إلى هذه الضرورات.
أما الذي جرى فهو ما نرى من شراسةٍ قمعيةٍ، ذات منحىً تخريبيّ واستئصالي، مع انتعاش جرائم الإرهاب التي أخفق النظام البوليسي، بكل ملكاته وخبراته، في وقفها، ومضى في رمي الاتهامات إلى “الإخوان المسلمين” بالمسؤولية، تغطيةً منه على قصوره وفشله. يُضاف إلى هذا الحال السيئ ما يكابده المصريون من غلاءٍ غير مسبوق، ومن نقصان شعورهم بالأمان الاجتماعي والمعيشي، في ظل سلطةٍ لا تنظر إلى غير جيوبهم، تطمع بها، ولا تتوقّف عن ابتداع وسائل استنزاف المصريين وطاقتهم، وتُشهر، في الغضون، كذباً معلناً أن محبة المصري بلده لا تتحقّق إلا بمقدار ما يتبرع للصناديق التي تبرع حكومات السيسي في صناعتها.
… مصر في سنوات الانقلاب ملفٌّ حقوقيٌّ بامتياز، ملفّ فشلٍ اقتصادي وتنموي ظاهر، مع كل التقدير لطاقاتٍ تعمل وتجتهد وتحاول، ملفّ تدهور فادحٍ في الأداء الإعلامي، وفي صورة البلد كلها. أما على صعيد الحضور السياسي، في الجوار والإقليم وفي العالم، فلا مدعاة للإحراج أكثر.