في أغسطس الماضي، احتفل الفلسطينيون بالذكرى السنوية الثالثة لانتهاء الحرب الإسرائيلية «المدمرة» ضد قطاع غزة، التي قتلت أكثر من 2200 فلسطيني، غالبيتهم العظمى من المدنيين، و71 إسرائيليًا غالبيتهم من الجنود، وتركت غزة خرابًا؛ بعدما دمّرت أكثر من 17 ألف منزل بشكل كامل، بالإضافة إلى المستشفيات والمدارس والمصانع.
وفي تقرير لـ«الجزيرة»، بحسب ما ترجمت «شبكة رصد»، تقول إنّ الحرب حطّمت قطاع غزة تمامًا. واليوم، يعيش 80% من الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر، ومعظمهم يعتمد على المعونة الإنسانية؛ ومن بينهم جيل كامل نشأ لا يعرف سوى الحرب والحصار ولم يرَ العالم بعد حدود غزة الفتاكة.
وهذه هي أصوات شباب شاركوا قصصهم الشخصية المأساوية؛ على أمل أن يستجيب العالم إلى نداءاتهم من أجل الحرية والعدالة، وهي ليست مجرد إحياء للذكرى الكارثية والمادية والعاطفية التي تكبّدتها غزة في أعنف هجوم لها في صيف عام 2014؛ بل ذكرى النكبة المستمرة التي عاشها الفلسطينيون منذ عام 1948.
النكبة المتكررة
تقول شهد أبو سلامة، فنانة فلسطينية ومدونٌة ومرشحة للدكتوراه في جامعة شيفيلد هالام: أنا لاجئة من الجيل الثالث، ولدت في واحد من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين: جباليا، أصلًا من بيت جرجا، قرية أجدادي دائمة الخضرة التي اضطروا إلى الفرار منها تحت النار الإسرائيلية قبل ما يقرب من 70 عامًا، ولدتُّ ناجية؛ إذ جاء المخاض إلى والدتي أثناء حظر التجوّل الذي فرضته القوات العسكرية الإسرائيلية على جباليا، وهو المكان الذي اندلعت منه الانتفاضة الأولى قبل سنوات قليلة من ولادتي.
وبينما كانت تخشى على حياتها وطفلها الذي لم يولد بعد، سارت في أزقة جباليا، متكئة على جدتي التي حملت قطعة من القماش بيضاء وفوطة؛ أملًا في استعطاف الجنود الإسرائيليين الذين أطلقوا النار على كل من تجرأ على كسر حظر التجوال. هذه قصة ولادتي القصيرة، وهي مجرد قطعة لن تكون كافية لتغطية الصدمة الهائلة التي شاركتها مع سكان غزة منذ ذلك الحين. وفي غزة، لا يمكن لأيّ أسرة أن تفلت من الحزن؛ فإما قُتل لها قريب أو جرح أو احتجز أو نُفي.
هذا السياق ضروري لتذكير الجميع بدورة العنف التي نتعرض إليها منذ تأسيس دولة الاحتلال. هذه القصص، التي تبدو مروعة، هي واقع الفلسطينيين اليومي على مدى السنوات السبعين الماضية؛ فكيف يمكن لشعب كامل أن يتعرّض إلى الحصار في معزل، مع التعرض إلى أفعال وحشية لمدة طويلة من الوقت، لماذا؟ لأن العالم كله ينظر في اتجاه آخر.
ويتوقع المرأ أن يشجع هذا الواقع اللاإنساني حكومات العالم على فرض عقوبات على «إسرائيل». وبدلًا من ذلك، يتنافس قادة العالم على رعاية جهاز الأمن القاتل الإسرائيلي، مؤكدين حق «إسرائيل» في «الدفاع عن النفس» في كل مناسبة ممكنة.
إنهم يصدّقون ويقبلون السرد الإعلامي المضلل الذي تروجه «إسرائيل» لتبرير أفعالها الوحشية ضد شعبي، الذي يصورهم على أنهم إرهابيون؛ بينما يلقون باللوم على «المضطهدين» بسبب مقاومتهم المشروعة للحصول على حقهم في العيش بكرامة وحرية.
هويتي محددة.. مجزأة
تقول «سندس القوتات»، عاملة اجتماعية فلسطينية، حاصلة على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، إنّ الاحتلال الإسرائيلي والحصار المستمرين جعلاني أفهم المحتل بالطريقة التي يصور بها نفسه بفخر: إسرائيلية، صهيونية، يهودية. وزاد هذا من إحساسي بهويتي كفلسطينية عربية، مسلمة.
ولكن، ظهرت عوامل جديدة بعد الحصار الذي فُرض على غزة منذ عقد من الزمان. الآن، أشعر مثل مليوني فلسطيني آخر أنني أنتمي إلى هذا الجيب الساحلي الذي يتعرض إلى معاناة يومية «غزة».
وأدى الانقسام السياسي، بسبب غياب قيادة موحدة واحدة تمثل غزة والضفة الغربية، إلى تفاقم الاختلافات الجغرافية والثقافية بين الموقعين؛ حيث تتسع الفجوة كل يوم، مما يؤدي إلى تشكيل هوية منفصلة بالنسبة إلي وكثير من الشباب، مقارنة مع أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية.
غزة تحت حصار صعب. لكن، على الرغم من كل المصاعب، هناك شعور جماعي بالحكم الذاتي. ومن ناحية أخرى، على الرغم من أنّ الضفة الغربية لديها مظاهر من الحرية؛ ففي الواقع كل جانب من جوانب الحياة تسيطر عليه «إسرائيل». على مر السنين، كان إحساسي بالهوية الوطنية «مُجزّءًا».
ولكن، سواء في الضفة الغربية أو غزة، يجب ألا ننسى أننا نكافح المحتل العسكري نفسه، وسنبقى دائما مرتبطين عبر مقاومتنا. فقط بمقاومة الظلم، وهويتنا يمكن أن تصبح مرة أخرى «موحدة».
أنا من هنا.. أنا من هناك
يقول يوسف الجمل، مرشح دكتوراه فلسطيني بمعهد الشرق الأوسط بجامعة سكاريا بتركيا: كونك فلسطينيًا يعني أن تعيش في حالة من القلق بشأن الوضع في فلسطين؛ سواء كنتَ في فلسطين أو خارجها، وأشعر دائمًا بالرغبة في المغادرة بسبب الحصار والحرب، ويشعر عديدون من شباب غزة بالمُرّ نفسه.
يعيش سكان غزة في ظروف غير طبيعية للغاية؛ إذ تنعدم الخدمات الأساسية، وحقوق الإنسان غائبة، نشعر أنّ المياه النظيفة والكهرباء وحرية السفر امتياز وليست حقًا. ولا يوجد شيء مُسلّم به؛ حتى الحق في تلقي العلاج الطبي.
يريد عديد من الفلسطينيين في غزة أن يروا العالم خارج حدود هذا الشريط الصغير، ولكن إذا ما فعلوا ذلك يصبحون محاصرين. وهم بين أمرين: البقاء خارج غزة؛ بسبب الظروف الصعبة في الوطن، أو صعوبة التكيف مع الحياة في الخارج. أنا أيضًا أشعر بأنني عالق بين هذا الشعور بالحبس في غزة والشعور بالنفي خارجها. هذا الشعور الثقيل من الاغتراب والنفي أمر فريد من نوعه لي، ومعظم الفلسطينيين يشعرون بهذا؛ خاصة سكان غزة.
هذا الشعور جزءٌ من تعقيد الهوية الفلسطينية بعد ما يقرب من 70 عامًا من كارثتنا الاجتماعية «النكبة»، عندما أقيمت «إسرائيل» فوق أنقاض بيوتنا. وينتقل هذا الشعور بالاغتراب والنفي من جيل إلى آخر؛ وسيستمر الأمر في التعقيد كلما ازدادت صعوبة الوضع في فلسطين.
ومع دخول حصار غزة عامه الحادي عشر، وأصبح نظام الفصل العنصري النشط في الضفة الغربية أكثر رسوخًا؛ فالهوية الفلسطينية ستصبح أكثر إيلامًا وتعقيدًا؛ إذ سيكون من الصعب تحديد مفهوم الوطن والنفي.
وأخشى أن يستمر شعور الاغتراب والنفي ويلقي بظلاله على الفلسطينيين أينما ذهبوا.
رفح: شخلل عشان تعدي
يقول أحمد صلاح (اسم مستعار)، طالب: أنا فلسطيني من غزة، حصلت على منحة دراسية ببلد أوروبي للحصول على الماجستير. كان من المفترض أن أسافر بعد الحرب، ولكنّ السلطات المصرية على الحدود في رفح رفضت السماح لي بالمرور.
الموت والخراب اللذان خلفتهما «إسرائيل» تركا عديدًا من الشباب مثلي في حالة من اليأس والصدمة؛ لكنهما أعطيانا أيضًا تصميما أكبر على معارضة المشاريع الصهيونية الاستعمارية القاتلة، وأولئك الذين يدعمونها.
لمدة من الوقت، كانت هناك محادثات بشأن فتح مطار أو ميناء بحري. كانت الفكرة في غاية الرقة؛ لأنها تبدو وكأنها تُقدّم مخرجًا من سجن غزة في الهواء الطلق. لكنّ السلطة الفلسطينية، بقيادة محمود عباس، مع مصر، جعلت ذلك مستحيلًا. وبدلا من ذلك، تعاونتا لتشديد الخناق على الرقبة في غزة. ويعاقب كل فلسطيني من مليوني شخص يعيشون في غزة على أنهم فلسطينيون يقاومون الاحتلال والحصار.
عندما حاولت السفر عبر معبر رفح الحدودي أعادتني السلطات المصرية دون أي سبب. وبعد أشهر من الانتظار وساعات طويلة من التدقيق، أُعدتّ دون أي تفسير. كنت واحدًا من قرابة مائة شخص، معظمهم من الطلاب، ومعنا أيضًا مصبون بأمراض خطيرة وآخرون مصابون في الحرب.
لقد كنتُ عازمًا على المحاولة مرة أخرى، وهذا أمر يستغرق أربعة أشهر على الأقل؛ لأنه في ذلك الوقت كانت مصر تفتح المعبر ثلاثة أيام كل شهرين أو ثلاثة أشهر. ولكن بعد ذلك، أبلغني صديق بأنّ الضباط المصريين يتلقون رشاوى مقابل السماح بالمرور، وهذا بالضبط ما فعلته. اتصلت بمنسق الحدود، الذي قال لي إنني على القائمة السوداء ولديهم تقريرًا عني والطريق الوحيد للسفر دفع ألفي دولار أميركي؛ ففعلت ودفعت المال، وبأعجوبة لم أعد أشكّل تهديدًا أمنيًا؛ وغادرت غزة ولم أعد بعد.
بالنسبة لي وكثيرين مثلي، أصبح معبر رفح الحدودي لعنة غير قابلة للكسر. في الوقت الحالي، أخطط لمواصلة دراستي في الخارج. القرار مؤلم؛ لأنه يعني أنني لن أكون قادرًا على رؤية عائلتي أو بيتي في أي وقت قريب.
الأمل في العود
يقول محمد أحمد بلور، موسيقي فلسطيني: أنا لاجئ فلسطيني، أبلغ من العمر 22 عامًا، من غزة وأحب العزف على العود. العود بالنسبة إلي ليس أداة موسيقية فقط؛ لكنه الأمل أيضًا.
سيظل الشباب في قطاع غزة على ما يرام بالرغم من الفقر والمرض والحصار الذي دام عقدًا، وليس أمامنا اختيار آخر سوى البقاء دون سلطة. نحن مستقبل هذا المكان، لن نستسلم ولن يهزمنا القهر، وفي أحيانٍ أتمنى الجمع بين الموسيقى ووسائل الإعلام؛ لإيصال رسائل إيجابية من غزة، بجانب قصصنا وآمالنا وآلامنا.
الموسيقى تلهمني؛ إنها لغة عالمية، وكل ما يتطلبه الأمر قلب مفتوح. وتصل إلى قلوب الجميع، بغض النظر عن العمر أو الجنس أو الخلفية. أعزف على العود وأشارك مقاطع الفيديو الخاصة بي على الإنترنت. أريد للعالم أن يعرف أننا في غزة نعيش على أكمل وجه كل يوم ونجد طرقًا للبقاء على قيد الحياة والعيش.
ليس علينا أن نقبل بأن الألم مصيرٌ لنا. أشعر بالسعادة عندما أمسك عودي لأنقل قصة شعبي إلى العالم بالموسيقى.
سنبقى على قيد الحياة وسنكافح ونتحدى، وفي نهاية المطاف سنغيّر واقعنا المؤلم؛ بغض النظر عن الألم، والوقت سيمر.