شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

عن استثمار الشعب المصرى – فهمي هويدي

عن استثمار الشعب المصرى – فهمي هويدي
  كلما قرأت خبرا عن «هبة» قدمها زائر أجنبى لمصر ينتابنى شعور بالانكسار والصغار. إذ على الفور أستحضر صورة رئيس...

 

كلما قرأت خبرا عن «هبة» قدمها زائر أجنبى لمصر ينتابنى شعور بالانكسار والصغار. إذ على الفور أستحضر صورة رئيس الوزراء جالسا على باب مصر، ووراءه لافتة جهاز الإحصاء التى تعلن على الملأ ان الرجل «يعول» 83 مليون مصرى فى الداخل وتطن فى أذنيه طوال الوقت أصوات 8 ملايين آخرين يتوزعون على أنحاء الكرة الأرضية. الأمر الذى يستثير عطف القادمين الذين يرثون لحال الرجل ويشفقون عليه من الحمل الثقيل، فيضع كل واحد يده فى جيبه ويستخرج منه ما تجود به نفسه قبل أن ينصرف إلى حال سبيله ويقفل عائدا إلى بلده.

 

هذه الصورة المتخيلة التى تتراءى للمرء فى لحظة شعوره بالاستفزاز والغيرة، يبدو أن آخرين يتعاملون معها بحسبانها واقعا تعانى منه مصر. على الأقل فذلك ما أوحت به كتابات البعض الذين تصوروا أن مصر لا ترى إلا وهى ممدودة اليد، ويتوقعون منها أن تجيئهم حبوا ملتمسة العون والمساعدة.. متوهمين أن المقامات تصنعها أرصدة البنوك والمصادفات التاريخية.

 

إذا نحينا جانبا مقولات الذين لا يعرفون قدر مصر، فإن منظر الواهبين يظل أمرا مستفزا، ثم إن إبراز وسائل الإعلام المصرية لما قدموه من «مكرمات»، يضاعف من الاستفزاز، لانه يعطى انطباعا مغلوطا ويروج لثقافة قليلى الحيلة والعاجزين. وحين تبرز وسائل الإعلام ان تلك الهبات لن ترد، فإن ذلك يوحى على الفور بأننا بصدد تبرع أو «بقشيش» تفضل به نفر من أهل الخير، وقدموه بحسبانه «منحة» تستحق الشكر والامتنان.

 

لست ألوم الذين يخطئون فى فهم المشهد أو فى عرضه فى وسائل الإعلام بصورة تنال من كرامة هذا البلد وقدره، إلا أننى ألوم الذين لم يحاولوا أن يعطوا للتصرف حجمه الطبيعى وأن يضعوه فى سياق الضرورة العارضة لبلد لا هو فقير ولا هو عاجز.

 

لقد أبرزت الصحف أمس خبر تقديم الحكومة الفرنسية 300 مليون يورو إلى مصر، وذكرت صحيفة الأهرام التى نشرت الخبر على ثلاثة أعمدة فى قلب صفحتها الأولى ان المبلغ يعد منحة لا ترد هدفها دعم مصر، التى تحرص فرنسا على توثيق الأواصر معها. وقبل الفرنسيين قرأنا عن منح قدمتها دول أخرى منها قطر والسعودية والصين.

 

لقد أصبحنا نقرأ الكثير عما يقدمه الآخرون من منح وقروض، وعن تيسيرات وإغراءات لجذب الاستثمارات الخارجية، الأمر الذى أعطى انطباعا بأن جهد الحكومة منصب على ذلك الاتجاه، فى حين أننا نفهم أن تعطى الأولوية لاستنهاض الهمم فى الداخل، لتحريك كل ما هو راكد أو معطل فى مجالات الإنتاج المحلى، ثم بعد ذلك تأتى مرحلة الاستعانة بالخارج.

 

سمعت من الدكتور حازم الببلاوى نائب رئيس الوزراء ووزير المالية السابق تصورا للتعامل مع المشهد خلاصته كما يلى: إن الأزمة واردة فى مسيرة أى بلد. ومن الطبيعى أن يتعاون معه الآخرون لتجاوزها، كما هو الحاصل فى دول الاتحاد الأوروبى الآن. إلا أن الأمر يتطلب شفافية من البداية، بحيث يصارح الرأى العام بحقائق الأزمة وبحدود التصرف إزاءها، بحيث يكونون على وعى بما هو فى مقدور الدولة وبما يتجاوز قدرتها على الاحتمال. وفى كل الأحوال فإن الحكومة يجب أن تطالب الرأى العام بأمرين، أولهما بذل الجهد والعرق، وثانيهما الصبر حتى يحين طور قطف ثمار الجهد.

 

فى رأيه أيضا أن تلك المكاشفة المرجوة لم تتحقق فى مصر، وأن الحكومة لجأت إلى طمأنة الناس وتسكينهم بأكثر مما حاولت استنفارهم وشحذ همم لبذل ما وسعهم من جهد والصبر على تحمل الأعباء الذى يسبق النهوض المنشود.

 

أضيف إلى ما ذكره الدكتور الببلاوى أننى أخشى على المجتمع من إبراز وتواتر أخبار الاقتراض ومحاولات استجلاب الأموال والاستثمارات الأجنبية، لأن من شأن ذلك أن يروج لثقافة الاعتماد على الخارج، الأمر الذى يؤدى إلى تراجع قيمة الاعتماد على الذات. وهو ما يسوغ لى أن أقول أننا لم تستثمر بعد طاقات الشعب المصرى، باستدعاء مخزون طاقاته وإبداعاته وخبراته التى تراكمت عبر التاريخ. ولست واثقا من اننا على إحاطة كافية بامكانيات المصريين البشرية أو المادية، كما أننى لست على ثقة من أننا بذلنا القدر المطلوب من الجهد لتوظيف تلك الامكانيات فى تلبية الاحتياجات فى المجالات الإنتاجية والعمرانية المختلفة.

 

أفهم ان ثمة شريحة واسعة من الصناعيين والتجاريين الذين يحتلون الصدارات، ولهم مصالحهم الكبيرة فى استمرار التعامل مع الخارج، لكننى أتحدث هنا عن شعب يريد أن ينهض وليس عن رأسماليين يريدون مضاعفة أرباحهم، وإذا ما اتفقنا على ذلك فاننا لا ينبغى فقط أن نفكر بطريقة أخرى، وإنما يتعين علينا أن نخاطب أناسا آخرين من المهمومين بمستقبل الوطن والمهجوسين بتقدمه ورخائه.

 

فى الحديث النبوى إن اليد العليا خير من اليد السفلى، لكن بعضنا يصرون على العكس، فيستبدلون الذى هو أدنى بذلك الذى هو خير.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023