بعد فرار أفراد «تنظيم الدولة» من الموصل، اندهش سعيد قريشي، العامل في مكتب قاضٍ بمحافظة نينوى في العراق، عندما جاءت سيدتان، وكان من المفترض أن تُسلّما المشتبه بهم لصلات بتنظيم الدولة؛ لكنّ المفاجأة أنّ السيدتين لم يكن معهما مقاتلون وحشيون، ولا حتى أحد المتعاطفين؛ بل كانوا أطفالهم، وجميعهم دون سن الثالثة، وقالت السيدتان: «لا نريدهم، فآباؤهم ينتمون إلى تنظيم الدولة واغتصبونا»، حسبما نشرت صحيفة «نيوزويك».
وأضافت، وفق ما ترجمته «شبكة رصد»، أنّ سعيد شاهد الموقف منذ أوله إلى أن خرجت السيدتان من المكتب، تاركين خلفهما فلذات أكبادهما لا يكفون عن البكاء، وتساءل عما إذا كان أهالي السيدتين ضغطوا عليهما لدفعهما إلى التخلي عن الأطفال. ويقول سعيد، وهو ناشط عراقي في مجال حقوق الإنسان طلب استخدام اسم مستعار حفاظًا على سلامته: «لقد كانت هذه الحالة مروعة؛ فحتى لو هذا قرارهم فإنه ليس بالأمر الهين».
ولم تكن هذه الحادثة بمعزل عن أخريات شبيهات لها؛ ففي الأشهر الأخيرة، منذ أن أطاحت القوات العراقية بمقاتلي التنظيم من الموصل، رغب أولئك الذين يعانون من ويلات معاملته الوحشية بشدة في الانتقام. وقطع عديد منهم علاقاته مع عائلته، وبعضهم اتهم الجيران بالانتماء إلى التنظيم. وأصبح آخرون نشطاء؛ بما ساعد العدالة على نحو مناسب. ففي وقت سابق من هذا العام، اكتشف عمال الإغاثة والصحفيون أكثر من عشرين جثة تطفو على نهر دجلة، بالقرب من الموصل. وكان القتلى معصوبي العينين، ومن المشتبه فيهم بالانتماء إلى التنظيم؛ ومن المحتمل أنّ القوات النظامية هي من فعلت ذلك.
ضحايا التنظيم تتوفر لديهم أسباب وجيهة للغضب؛ فمنذ الاستيلاء على الموصل في يونيو 2014 أجبر المقاتلون التابعون للتنظيم المواطنين على قوانينهم الصارمة؛ فلا توجد سجائر، ولا يسمح بالاختلاط بين الرجال والنساء، ولا موسيقى أو إنترنت خاص. وشملت هذه القواعد سكان المدينة أجمعهم، البالغ عددهم مليون نسمة تقريبًا. وعذّب أفراد التنظيم مواطنين وأعدموهم بصورة روتينية. فاحتلوا المنازل، وسرقوا كل ما يريدونه. وحوّلوا الأطفال والنساء إلى جنود، واستعبدوا الأطفال.
وعندما بدأت القوات المدعومة من الولايات المتحدة بإطاحة المقاتلين التابعين للتنظيم من المدينة في أكتوبر الماضي، أصاب الهاجس التنظيم؛ فنفّذ إعدامات بحق المشتبه بهم في كونهم جواسيس، وكذلك المدنيين الذين يحاولون الفرار من الموصل. وقبل أن يفقد الموصل، أوائل يوليو، قتل المسلحون وتسببوا في جرح أكثر من ثمانية آلاف من أفراد قوات الأمن العراقية.
واليوم، يبدو عدد قليل من العراقيين يحملون قلقًا بشأن معاملة المشتبه بانتمائهم إلى التنظيم وأسرهم. ويتجاهل محاميو الدفاع العملاء من التنظبم؛ خوفًا من الكراهية والنبذ والقصاص. وتضخّم هذا الخوف مؤخرًا، وفقًا لما ذكرته «هيومن رايتس ووتش»؛ بعد أن أصدرت السلطات العراقية أوامر بالقبض على أكثر من 12 محاميًا ممن يدافعون عن المشتبه في انتمائهم إلى التنظيم، ووجّهت اتهامات إلى الجميع بالانتماء إلى التنظيم.
والفئة الوحيدة المهتمة بالوقوف على أحوال المتهمين من المشتبه فيهم هم حفنة من النشطاء في جماعات حقوق الإنسان. أحد هؤلاء هو «سكوت بورتمان» مدير الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة «هارتلاند أليانس إنترناشونال» غير الربحية ومقرها الولايات المتحدة وتوظف محامين محليين وأخصائيين اجتماعيين في العراق.
ويقول «سكوت» إنّ المشاكل الحالية للبلاد تعود إلى عام 2015، عندما عزّز التحالف بقيادة العراق معركته ضد مسلحي تنظيم الدولة. وفي تكريت والرمادي والفلوجة، أفاد المواطنون بأن القوات الحكومية والمليشيات يسيؤون معاملة المشتبه فيهم بالانتماء إلى التنظيم، بمن فيهم المراهقون والجنود من الأطفال، ويعدمونهم.
لكنّ حجم الانتهاكات المبلّغ عنها تضاعف في المعركة الأخيرة للموصل، وهي المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان وتقع في حوزة تنظيم الدولة في العراق. والآن، يقول «سكوت» إنّ مستوى الغضب ضد المتعاطفين سيئ عما كان عليه قبل عقد من الزمان، في أكثر السنوات دموية في حرب العراق. وعبّأت قوات الأمن، التي تكبدت خسائر فادحة ضد المسلحين التابعين للتنظيم، مئات من المشتبه في انتمائهم إلى التنظيم، بما فيهم القصر، واقتادتهم إلى سجون مؤقتة جنائية؛ واُعتقلت زوجات المسلحين وأطفالهم في المخيمات.
وفي تقرير للأمم المتحدة في يوليو الماضي، قال إنّ ما يحدث «دون المعايير الإنسانية»؛ إذ قُتل عشرة أشخاص في ثمانية أيام، وجمعت السلطات العراقية ما لا يقل عن 1400 زوجة وأطفال آخرين يشتبه في انتمائهم إلى تنظيم الدولة.
رغبة الانتقام
ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من أنّه لم يمثل أحدهم أمام قاضٍ، وأحد الأسباب التي يُقال إنها السبب في ذلك الخوف من الهجمات الانتقامية، قال «سكوت» إنّه «من الصعب السيطرة على رغبة الناس في الانتقام عندما يفقدون كثيرًا من أصدقائهم وأحبائهم».
إنّ الرغبة في الانتقام تجعل من الصعب ضمان الإجراءات القانونية الضرورية أثناء المحاكمات، وحتى المشتبه فيهم ممن وجدوا محامين قد يواجهون بمحاميين عديمي الخبرة؛ والمسؤول عن كل هذا هو القهر و الانتقام. يقول سعيد قريشي، الذي يدير ورش عمل تدريبية للقضاة والمدعين العامين نيابة عن «هارتلاند»، إن بعضهم يتعاطف مع المقاتلين الشباب أو الأشخاص الذين أجبروا على الانضمام إلى التنظيم؛ لكن آخرين، مثل مدّعٍ عام التقى به في ورشة عمل، لا يرى فرقًا بين زعيم التنظيم ومجند يبلغ من العمر 12 عامًا، بل إنه قال: «يجب أن نحرقهم».
الأعداد الكثيرة للمحتجزين جعل الوضع أكثر صعوبة، ويقول سعيد إنّ السلطات الكردية والعراقية احتجزت قرابة خمسة آلاف من الشباب الصغير، الذين لهم صلات بالتنظيم. وأدى الاكتظاظ إلى تراكم المحاكمات في القضاء؛ فيمكن أن ينتظر المشتبه بهم شهورًا لبدء المحاكمة. وعندما تبدأ المحاكمة بالفعل في النهاية فالوقت الذي يقضيه القضاة في مراجعة قضاياهم غالبًا ما يكون موجزًا. وعملت محكمة نينوى لمكافحة الإرهاب، الموجودة في منزل مهجور، على ما يقرب من ألفي حالة في أوائل يوليو، وفقًا لتقرير «هيومن رايتس ووتش». وذكرت صحيفة «ديلي تلغراف» أن القضاة الـ12 في هذه المحكمة سمعوا لما يتراوح بين 40 قضية و50 في اليوم.
وحاولت «هيرتلاند» وجماعات حقوق الإنسان الأخرى التخفيف من حدة هذه المسائل الواقعة على المشتبه في انتمائهم إلى التنظيم؛ إذ اُعتُقل بعضهم وأطلق سراحهم في مدينة ما، ولكنهم يُعتقلون مرة أخرى في مدينة أخرى. ويحاول علماء النفس والمتخصصون الاجتماعيون لمّ شمل أفراد أسرهم المشردين، وإيجاد حلول للأطفال اليتامى، والتحقيق في تقارير سوء المعاملة. وتقدّم الفرق القانونية المشورة إلى مئات القضاة والمدعين العامين والمحامين للنظر بعناية في ظروف كل قضية وطرح أسئلة مثل: «هل كان هؤلاء الناس متطرفين ومجرمين حقًا؟ أو هل هؤلاء الأشخاص الذين أجبروا على أن يكونوا مع التنظيم هم ضحايا أحداث أم أنهم قتلة؟».
ويتخوف سعيد القريشي من أن يكون لسوء المعاملة أو إدانة أشخاص بصورة خاطئة عواقب وخيمة؛ إذ يمكن أن تصبح النساء والأطفال العاديون، مثل هؤلاء الأطفال الذين تركوا في محكمة نينوى، أهدافًا سهلة للتجنيد للجماعات المتطرفة، ويضيف أنّ وضع القاصرين خلف القضبان بجانب المقاتلين الجهاديين المتشددين يمكن أن يخلق جيلًا جديدًا من القتلة، وتابع قائلًا: «نحن بحاجة إلى أن يفهم الجميع أن سيادة القانون تستوعب الجميع، من ضحايا ومجرمين».