قالت صحيفة «لوب لوج» إنّ الحروب الأهلية العربية داخل الدول، وتلك التي اندلعت بين الدول وبعضها بعضًا في العقود الماضية، أضرّت بالعالم العربي وأدّت إلى ترسيخ الديكتاتوريات وقمع بصورة أعمق من أي وقت مضى، موضحة أنّ هذه الصراعات خنقت أيضًا حرّيات الفكر والابتكار والإبداع، وخلقت جيلًا من الشباب تفشى فيه الشعور بالضيق السياسي والاقتصادي، مؤكّدة أنّ سياسات النُظم المتعاقبة في العالم العربي عملت على إبقاء شعوبها تحت السيطرة، وخلقت تخلفًا سياسيًا واقتصاديًا؛ بينما ألقت اللوم على الأطراف الخارجية.
وأضافت، وفق ما ترجمت «شبكة رصد»، أنّ ظهور ما تسمى «القومية العربية» في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خلق صورة ذاتية أكبر من الحياة؛ لكنه فشل في تحقيق إنجازات أدبية وعلمية وتكنولوجية متناسبة تعطي معنى ومضمونًا لمجد الشعوب العربية.
وبوقوع أحطاء جسيمة وهزائم عظيمة، على رأسها هزيمة 1967؛ ثبت أن الشعار القومي فارغ، ومن ثمَ شرعت الدول الكبرى والصغرى في تغيير مسار القومية من نطاقها الواسع إلى الوطنية المحلية. ومن أجل كسب المؤيدين والشرعية، بدأت هاتان الوطنيتان خلق صراعات داخل الحدود وأخرى تعبرها. وعلى مدى النصف قرن الماضي، كانت دول منها -في كثير من الأحيان- إما في حروب، أو على وشك إشعالها مع جيرانها.
وقدّم الرؤساء العرب والملوك والقبائل عريضة من الأسباب لتبرير لجوئهم إلى الحرب فيما بينهم؛ من بين هذه التبريرات كانت الطائفية الدينية والاختلافات العرقية، والصراع على السلطة، والتهديدات الأيديولوجية، وحقوق المياه، وحقول النفط، والغاز والملاحة والحدود الإقليمية والأحزاب السياسية والحركات الدينية والطقوس والاحتفالات، والمعارضة المناوئة للدولة، والإرهاب.
وكانت الأيدولوجية التي تُنسب إليها الأسباب علمانية ودينية وشيعية وسنية ومسلمة وغير مسلمة وعربية وفارسية وفلسطينية وإسرائيلية. القادة العرب غير الشرعيين، الذين حكموا باستخدام القوة أو التقاليد القبلية، كانوا بحاجة إلى كل هذه الأعذار لتبرير شيطنة «الآخر» بغض الطرف عن كينونته.
وبغضّ النظر عن هذه التوترات، شاركت دول عربية في حروب باردة عطّلت العلاقات السياسية وقوّضت الاقتصادات الإقليمية، وخنقت جميع أشكال الإبداع. وأُطلقت هذه الحروب الباردة بين الجمهوريات الرئاسية والملكيات، ونظم الحزب الواحد، والنظم الحزبية، وكذلك بين «العلمانيين» و«الإسلاميين».
تعزيز قبضة السلطة
ومن ناحية، معظم الأنظمة العربية تستخدم الإسلام سياسيًا بطريقة أو بأخرى بغية تعزيز قضيتهم وإضفاء الشرعية علي سلطتهم، وكذلك الحصول على تبرير للمسارات القمعية لأجهزة الدولة، وإنتهاكهم حقوق الإنسان والمرأة والأقليات.
ولم تتهاون الأنظمة العربية في سلك كل السبل للحصول على الشرعية وطاعة كاملة من شعوبها، وكذلك فإنه لا تسامح مع وجود أيّ معارضة؛ مهما كانت هذه الأساليب غير قانونية، وفي خنق المجتمعات؛ عبر توسّع أجهزة الدولة البوليسية على نطق واسعة، نجحت هذه الأنظمة في قتل كل مظاهر الفضول الفكري والابتكار.
أما العالم العربي «من الخليج المتمرد إلى المحيط الهادر» كما اعتاد أن يقول جمال عبدالناصر، فلم ينتج سوى حائز على جائزة نوبل واحد، ونشر وترجم عددًا أقل من الكتب والمجلات والمسرحيات والأفلام من بلدان ذات حجم صغير.
إنّ المشهد العربي، الذي يشبه صحراء جرداء فكريًا، كان خاليًا من الاكتشافات التكنولوجية والعلمية والطبية كذلك. ولم ينجز سوى عدد ضئيل من المشاريع الناشئة في القطاع الخاص بغية خلق فرص عمل كبرى؛ بينما حقق العلماء العرب الذين حصلوا على جوائز نوبل إنجازاتهم العلمية أثناء إقامتهم في دول أجنبية، ولم يتسنّ لغيرها الاستفادة من هذه المنجزات العلمية.
أوضحت التقارير العربية للتنمية البشرية التي كتبها المثقفون العرب تحت رعاية الأمم المتحدة بين عامي 2002 و2016 بقوة العجز في الحرية والتعليم والتنمية البشرية الذي عصف بالعالم العربي لعقود، على الرغم من أن تقرير 2016 ذكر إنجازات مشرقة وواعدة للشباب العربي؛ لكنّ «العرب الجدد» لا يزالون مقيدين بشدة من الدولة؛ ما يقوّض الحريات في الابتكار أو الحلم أو حتى حرية ارتكاب الأخطاء.
فالعقول العربية الخلّاقة الشابة تعيش تحت قيود فرضتها الأنظمة الاستبدادية، بالتوازي مع سعي الأنظمة الديكتاتورية إلى سرعة معاقبة أولئك الذين يجرؤون على التحرر ورفض كبت أنفسهم وتشويههم كـ«أعداء للدولة»، ولا تجد غير العنف من نهج للتعامل معهم.
قال المحامي المصري شريف حرب بسيوني، المتوفي مؤخرًا، إنّ الحروب لها عواقب وخيمة؛ غالبًا ما تكون جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ونقل قسري للشعوب، والتطهير العرقي والديني. وأكّد ضرورة مساءلة الأطراف المتنازعة عن هذه الكوارث وفقًا لمبادئ قانونية دوليًا.
الدول الأكثر تورطًا في حروب النصف قرن الماضي وقادها حكامها العرب هي الأكثر خسائر، وأصبحت نظمهم الأكثر قمعية، وباتت شعوبهم الأكثر خضوعًا لهذه الأنظمة الحاكمة. كما يرى «شريف» أنّ خسارة الحروب تعني خسارة العالم العربي لمزيد من الموارد، وزيادة الفقر، وأزمة لاجئين هائلة، وانعدام القانون، واعتداءات خطيرة على كرامة الإنسان، وصعود الحكام المستبدين، غير الخاضعين للمساءلة.
في معظم البلدان العربية، يقود الحكام غالبًا عبر السلطوية، مع الحفاظ على برلمانات متملقة وخاضعة، وسلطة قضائية طيعة، وصحافة صامتة. ومنذ أحداث 11 سبتمبر تعلّم الحكام أنه بإصدار ما تسمى «قوانين الإرهاب»، يمكنهم تعطيل عمل المعارضة، وكذلك اعتقال أي مواطن بمعزل عن العالم الخارجي لأشهر.
وفي الوقت الذي كانت فيه الصحافة والإعلام مكمَّمَين، منحت الأنظمةُ الأجهزةَ الأمنية سلطات مطلقة لممارسة الاضطهاد والتعذيب؛ حتى مع أكثر المتظاهرين تأييدًا للديمقراطية، والسلميين المؤيدين للديمقراطية. من بين هؤلاء الرياض والمنامة والقاهرة التي تميّزت في هذا الفن الأسود.
وبالرغم من انهيار العقد الاجتماعي القائم منذ عقود بين الحكام والشعوب، وعجز الحكومات عن الوصول لمواطنيها؛ يواصل الحكام منع أصحاب المشاريع الطموحين من حرية الإبداع والابتكار. فعلى سبيل المثال، يجب على رجل أعمال شاب أن يقفز عبر جميع أنواع البيروقراطية والأطواق الأمنية قبل أن يتمكن من الحصول على ترخيص لبدء مبادرة اقتصادية.
تأثير الحروب
وأدّت الحروب العربية مع الاحتلال الإسرائيلي أعوام 1948 و1967 و1973 إلى هزيمة عربية وخسارة الأراضي الفلسطينية والمصرية والسورية، وموجة ضخمة من اللاجئين الفلسطينيين. ولا تزال مخيمات اللاجئين تنتشر في الأردن ولبنان وسوريا وغيرها.
ولم تستطع الأنظمة العربية أن تعرقل ظهور الدولة الإسرائيلية التي تجاوزت على مر السنين جميع الدول العربية مجتمعة في الإنجازات العلمية والتكنولوجية والطبية والأدبية. قواتها العسكرية والبحرية والقوات الجوية متفوّقة على جميع الجيوش العربية أفضل تدريبًا وأكثر مهنية.
فالنظم الديكتاتورية العربية لم تدفع ثمن خسارة حروبها ضد «إسرائيل»، ولم يدفع الثمن سوى شعوبها؛ بل نتج عنها ازدهار الاستبداد العربي وترسّخه. ففي مصر، تلى عبدَالناصر أنور السادات وحسني مبارك. ومن خلفهم قاد عبدالفتاح السيسي انقلابًا عسكريًا لإسقاط محمد مرسي، الذي انتخب رئيسًا مدنيًا لأولى مرة في التاريخ المصري الحديث، ثم حلّ محله «رئيسًا» بعد أقل من عامين.
بينما في سوريا استخدم النظام البعثي الأحادي الحزب، المستبد تحت حكم الأسد، وهو الآن تحت حكم ابنه بشار، أساليب مفزغة وشديدة الوطيس من جهة العنف؛ لاستمرار الاستحواذ على السلطة. ودمّر نظام بشار الحالي عمليًا البلد بأكمله من أجل البقاء في السلطة.
وفي العراق، فشلت الخسائر الفادحة الناجمة عن الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات وغزو الكويت في 1990 في طرد النظام البعثي الديكتاتوري من السلطة. وأطيح بصدام في الأشهر الأولى من الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.
وساعدت السعودية النظام الحوثي الملكي في اليمن في الستينيات ضد ناصر، والآن تقاتل الحوثيين في حرب لا نهاية لها. والواقع أنّ الحرب السعودية في اليمن التي بدأها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليست لها أهداف واضحة، سواء لليمن أو للعلاقات العربية الإيرانية الطويلة الأمد في الخليج، قديمًا اضطر ناصر للانسحاب من اليمن، وسيواجه السعوديون في نهاية المطاف مصيرًا مماثلًا في حربهم الغامضة.
وفشل العداء الدبلوماسي والاقتصادي والإعلامي السعودي مع قطر في تحقيق أيّ أهداف وهمية صنعها السعوديون. فهم لم يثنوا أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، ولم ينجحوا في استبداله بأمير آل ثاني. وعلمت الرياض بالفعل أنّ تغيير النظام خارج حدودها، سواء في اليمن أو قطر، ليست كالمسلسل الشهير «لعبة العروش»؛ إذ يمكن أن تؤدى في نزوة من دون تكلفة باهظة.
بينما الحروب المعتدية القليلة، التي أطلقت ضد دول عربية مثل مصر (1956) ولبنان (1982 و2006) والعراق (2003) وغزة (2009 و2012 و2014)، ولّدت التعاطف مع البلدان المعتدى عليها؛ لكنها لم تغير من طبيعة القيادة السياسية.
إذ واصلت مصر حكمها الاستبدادي تحت حكم عبدالناصر. وفي لبنان، الدولة الخاضعة لسيطرة خفيفة مع سلطة قليلة مركزية، تُمارس السلطة الحقيقية من الفصائل والقبائل الدينية والقبلية والأسرية مع حزب الله؛ كونه الحزب السياسي الوحيد المؤثر في البلاد، واستمرت حماس في حكم غزة، ولا تزال الرئاسة الدائمة لمحمود عباس في رام الله.
ما هي الحروب العربية المطروحة؟
بعد نصف قرن من الحروب العربية، تندلع الشؤون السياسية والاقتصادية في العالم العربي. وسمحت الهزائم العربية دون قصد لثلاث قوى إقليمية غير عربية بالظهور كجهات فاعلة رئيسة، وهي إيران و«إسرائيل» وتركيا.
كما توغّلت القوتان الأجنبيتان الكبيرتان «روسيا والولايات المتحدة» في المنطقة لملء الفراغ الناتج عن ذلك ظاهريًا تحت غطاء توفير الأمن للدول: الجيش السوفيتي في مصر وسوريا، الجيش الأميركي في السعودية والبقية من دول مجلس التعاون الخليجي.
أثناء كلّ هذا، باتت الولايات المتحدة الأكثر نشاطًا في المنطقة بحجة «الحرب على الإرهاب»، واعتمدت أنظمة استبدادية في المنطقة كثيرًا من التشريعات الأميركية لمكافحة الإرهاب لتبرير سياساتها القمعية الصارمة ضد مواطنيها.
اليوم، تستدعي دول عربية، من بينها مصر والسعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة وغيرها، بسهولة «قوانين الإرهاب» ضد جميع أشكال المعارضة السلمية المؤيدة للديمقراطية؛ ونتيجة لذلك، العالم العربي أقل ديمقراطية وأكثر استبدادًا مما كان عليه قبل جيل.