استهلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعه بالعاهل السعودي سلمان بتذكيره بأنّ الاتحاد السوفيتي أوّل من اعترف بالمملكة عام 1926. لكن، في العقود التالية لهذه البداية الجيدة، انقلبت السعودية لتصبح واحدة من أقوى المعارضين لموسكو في المنطقة العربية. لكنّ دوام الحال من المحال، تغيّر الزمن والظروف السياسية والاقتصادية، وباتت موسكو تشهد الزيارة الأولى للملك سلمان وانطلاقة جديدة للتعاون الثنائي على جميع الأصعدة، حسبما نشرت صحيفة «ذا ناشيونال إنتريست».
وأضافت، وفق ما ترجمته «شبكة رصد»، أنّ هناك حقيقتين تلفتان الانتباه بشكل خاص عند تحليل آفاق هذا التعاون: أولا، هناك اتهامات غربية بأنّ بوتين يحاول إحياء المجد السوفيتي دوليًا. ويتثنى للمرء أن يجادل هذه الاتهامات ودقتها من تلفيقها، وبالنظر يتضح أنّ السياسة الخارجية الروسية الحالية في مناطق تذهب لأبعد مما ذهبت السياسة السوفيتية في أي وقت مضى، والشرق الأوسط هو المثال الأكثر دلالة.
مع «إسرائيل»، أوشك الاتحاد السوفيتي في أحيانٍ على مواجهة عسكرية مباشرة. وفي إيران، سواء في ظل «الشاه» أو بعد «الثورة الإسلامية»؛ تعقّدت العلاقات مع جارتها الشمالية. بينما كانت تركيا عضوًا نموذجيًا في الناتو.
حرصت السعودية على تطوير تعاونها مع الولايات المتحدة، بينما ظلّت بريطانيا القوة الغربية المهيمنة على المنطقة. واليوم أصبح سلمان آخر قادة هذه الدول الأربع الذاهبين إلى روسيا لرؤية بوتين ومناقشة كيفية تطوير التعاون الثنائي.
وحقيقة أنّ هذه تعد الزيارة الأولى لملك سعوديّ إلى روسيا، بينما يرى حسن روحاني ورجب طيب أردوغان، وبوتين على وجه الخصوص، بانتظام؛ فهذه حقيقة مضللة. فلدى السعودية القدرة على اللحاق بسرعة بكبرى القوى الشرق أوسطية في التعاون مع روسيا، والأهم أنّ الحقيقة الثانية الحاسمة لفهم التقارب السعودي الروسي الحالي هي الخلافات العديدة؛ بل وحتى التنافس بين البلدين لا يحول دون التعاون.
ويسيطر توازن معقّد على التنافس والتعاون، سواء عبر قضايا، ويمكن للمرء أن يتساءل: كيف يمكن لقادة من البلدين مثل بوتين وسلمان أن يتفاءلا جدًا مع كثير من الخلافات ويتوددان. روسيا والسعودية ليستا منافستين في البترول عالميًا فحسب؛ بل تدعمان أيضًا مختلف جوانب الحرب الأهلية السورية الوحشية.
وفي العام الماضي فقط، بدا أنّ موسكو والرياض يتّجهان إلى صراع كامل؛ إذ يتصاعد قلق السعودية إزاء الدعم الروسي لبشار، فكان من الصعب بدء المفاوضات بشأن أسعار النفط، كما أنّ ولي العهد محمد بن سلمان، وقد صعد نجمه وأصبح المفضّل لدى الأوساط ووسائل الإعلام الداخلية والدولية، يثرثر بأنّ لديه القدرة على بيع ما تحتاجه المملكة من النفط لتغطية النفقات السعودية، دون إعطاء أهمية لأسعار النفط.
وفي هذا العام، يمكن للتحوّل أن يكون عنيفًا بشدة؛ إذ تنتصر قوات بشار الأسد التي تدعمها روسيا، والتعاون بين روسيا وأوبك ينمو، والملك السعودي يصل إلى موسكو. ومع ذلك، هذا التغيير الجذري ليس فريدًا من نوعه؛ فبعد إسقاط تركيا طائرة مقاتلة روسية في 2015، مرّت العلاقات التركية الروسية بعداء متنامٍ بوتيرة متسارعة.
ولكن بعد عامين، لم يعد التعاون بين موسكو وأنقرة عميقًا كما في السابق. ويبدو أنّه في حالة العلاقات السعودية الروسية تدخّل الملك سلمان شخصيًا لوقف التصعيد. مثل هذا التدخل مفهوم، بالرغم من كل الاختلافات لا توجد قضية حيوية للبلدين؛ إذ يمكن أن تكون هناك ورقة رابحة تحدث فرقًا في لعبة المعادلة الصفرية هذه.
موسكو، من جانبها، لم تعلن أبدًا السعودية عدوًا؛ حتى عندما بدأت الوهابية، المهيمنة والنابعة من المملكة العربية السعودية، أخذت تنشر جذورها في داغستان والشيشان المتمردتين على روسيا.
في الواقع، يمكن للمرء أن يناقش أنّ الرياض تشارك موسكو وجهة نظرها بأنّ تقسيم القضايا في السياسة الخارجية يمكن أن يقطع شوطًا طويلًا إيجابيًا بين البلدين، وأيًا كانت الاختلافات المتباينة، فعندما تكون هناك إمكانية للتوصّل إلى تسويات واتفاقات ينبغي أن نقوم بذلك.
واليوم، هناك مجالات للتعاون بين الطرفين السعودي والروسي، وهناك أكثر من عشر وثائق مختلفة وقّعت أثناء زيارة الملك إلى موسكو بهدف توفير أساس لشراكات في مجالات معدة، كاستكشاف الفضاء والتبادلات الثقافية والاستثمارات، ومبيعات الأسلحة، والتعاون في العلوم والزراعة.
أولا: يبدأ البلدان في تقييم أفضل السبل للتعاون في مجال الطاقة النووية والمتجددة، ويهتم كل من منتجي الطاقة الرئيسين باحتياجات الطاقة المحلية؛ إذ يمكن أن تكون التجربة الروسية في مجال الطاقة النووية مفيدة جدًا للسعودية. ويمكن أن تكون الاستثمارات السعودية مفيدة في تطوير التقنيات اللازمة لتوريد الطلب المحلي الروسي الكبير جدًا على الطاقة وتطبيقها. ثانيًا: في أعقاب الزيارة، أُعلن أنّ السعودية اشترت أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400.
ومن المثير للاهتمام أنّ الرياض تبدو في المجالين تسير على خطى تركيا. فيمكن القول إنّ السعودية ودول الخليج الأخرى كانت تراقب عن كثب رد فعل واشنطن على الخطط التركية لشراء S-400. عندما أصبح واضحًا أنّ الولايات المتحدة لن تعارض الصفقة بين موسكو وأنقرة؛ خلافًا لمحاولة تركيا السابقة لشراء أنظمة الدفاع الجوي من الصين، حقّقت روسيا نجاحًا جادًا في سوق التسلح العالمي. إذا كان عضوا في الناتو يمكنه شراء S-400، إذا لماذا الأطراف المهتمة الأخرى عليها الانتظار؟
ولإتمام تحليل زيارة الملك السعودي لموسكو، من المهم تقييم آفاق هذا التعاون على المدى المتوسط، وحتى الطويل، واستعداد الطرفين لاتّباع سياسة التقسيم؛ فهذه الشراكة تقوم على تجنب التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها بعضًا وغياب الأيديولوجية.
وقال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إنّ «البلدين يؤمنان بضرورة احترام مبدأ السيادة واحترام القانون الدولي، وتجنب التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى»، ورفضت الدولتان فرض مبادئ غريبة على مجتمعات البلدين.
ويمكن للمراقبين الغربيين أن يتساءلوا عما إذا كانت روسيا، مع تطور علاقاتها مع القوى الشرق أوسطية، تتظاهر بأنها تدفع موقف الولايات المتحدة؛ باعتبارها السلطة المسيطرة على المنطقة. وهنا، ستصل موسكو بصعوبة بالغة إلى هذا الهدف الطموح، مع إدراك واضح لمخاطر التوسع الزائد؛ فعندما تتطوّر العلاقات الثنائية مع جميع القوى الإقليمية الكبرى لا شيء أكثر تفاؤلًا من ذلك.
وبريطانيا حاسمة فيما يتعلق بتوفير الأمن في المنطقة كجزء مما ورثته من السياسات الاستعمارية. في البداية، أخذت واشنطن هذه المسؤولية من لندن كجزء من استراتيجية الحرب الباردة، وبعد ذلك، أصبح اللاعبون الإقليميون قادرين على سحب الولايات المتحدة لحل مشاكلهم، عبر دافعي الضرائب الأمريكيين.
بينما روسيا تختلف؛ إذ تعلّمت من دروس الفوضى القاتلة في الحرب الباردة، والسياسة الداخلية الروسية لا تسمح يأي مجال بتشكيل لوبي أجنبي يدعم مغامرات خارجية؛ وهذا هو السبب في أن التعاون الروسي السعودي، والشراكات الإقليمية الأخرى، سيؤديان بالكاد إلى طموح روسي بأن تصبح بمثابة «شرطيًا» في الشرق الأوسط.