على مدار العقود الماضية، واجه النوبيون مظالم تاريخية، وفي 2014 تمكّنوا من إثبات حق العودة في الدستور الجديد؛ لكنّ الدولة حاليًا تمنعهم من محاولاتهم لتطبيق الدستور على أرض الواقع. وفي الوقت الذي كان يستعد فيه عبدالفتاح السيسي لإعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، كانت وسائل الإعلام الموالية للدولة تقود حملة تحريضية غير مسبوقة ضد النوبيين، أحفاد الحضارة الإفريقية القديمة، والسكان الأصليون لمصر والسودان.
ففي يوم واحد نُشرت عشر مقالات مختلفة تتضمن تحريضًا ضدهم، وعلى ما يبدو كانت بتوجيه من المخابرات؛ وتضمّنت التقارير والمقالات صورًا للمدافعين عن حقوق الإنسان وأسماءهم كاملة، ووصفوا بلغة مهينة بأنهم «نوبيون» وبالتالي تشويه سمعة السيسي؛ بالرغم من كونهم مواطنين مصريين مهتمين بتدويل القضية النوبية.
هذا ما رصدته الباحثة والأستاذة المشاركة في الجامعة الأميركية بالقاهرة «إيمي أوستن» في مقالها بصحيفة «واشنطن بوست» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفة أنّ هذه الحملة الإعلامية المنسّقة توضّح رغبة النظام في استخدام العنصرية ضد الأقلية النوبية للتشكيك في المعارضة السلمية، كما يحتوي الخطاب على عوامل من رهاب الأجانب؛ بالإشارة إلى أنّ النوبين «على اتصال بأجانب» في قضيتهم.
تاريخ من التهميش
عاش النوبيون في مصر منذ آلاف السنين، وفي القرن العشرين هُجّروا أربع مرات بسبب بناء السدود على طول نهر النيل، وواجهوا تهجيرًا قسريًا وقمعًا للغتهم وثقافتهم؛ فلا توجد مدرسة أو جامعة واحدة في مصر تعلّم اللغة النوبية؛ وبالتالي ساهمت الدولة المصرية في تهميشهم.
لكنّ الشباب النوبيين الذين بلغوا سن الرشد في زمن الثورة لم يعد تهميشهم مقبولًا؛ فنجحوا بالفعل في الحصول على تمثيل نوبي أثناء صياغة الدستور في 2014. وبسبب جهودهم، ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث؛ أصبح الدستور يعترف رسميًا بالنوبة، بل والأكثر أهمية أنّ المادة 236 أعطتهم حق العودة إلى أراضٍ نزحوا منها، والآن يطالبون بتطبيق ما ورد ف الدستور على أرض الواقع.
وفي سبتمبر 2017، نظّم النوبيون احتجاجًا سلميًا في أسوان؛ مطالبين بتنفيذ المادة 236 من الدستور، وكانوا ينشدون الأغاني النوبية ويعزفون بآلات تقليدية ويسيرون على طول الكورنيش؛ فنشرت السلطات المصرية الدبابات والمدرعات لمواجهتهم، واُعتُقل 12 منهم في معسكر تابع لقوات الأمن المركزي السيئ السمعة، وقضوا أكثر من شهرين، ولم توفّر لهم أسرة ينامون عليها.
وفي نوفمبر توفي المعتقل «جمال سرور» بسبب الإهمال الطبي؛ بعدما دخل في غيبوبة نتيجة إصابته بداء السكري أكثر من مرة. وكان «جمال» الرئيس السابق للاتحاد النوبي العام، وعرف بالعمل السلمي والخيري، وبعد إعادة انتخاب السيسي مباشرة نشر أسماء رؤساء الاتحاد العام النوبي في النمسا ومصر وصورهم.
وبعد وفاته، أُطلق سراح المعتقلين؛ لكنهم لم يبرؤوا، ويُحاكم المعتقلون الـ23 في محكمة أمن الدولة بأسوان بموجب قانون الطوارئ، واستمرت قضيتهم لمدة ثمانية أشهر؛ وأصبح الأمر مثيرًا للجدل؛ لدرجة أنّ قاضيًا تنحى عن نظر القضية مؤخرًا، وتحدّد يوم 20 مايو القادم للمحاكمة؛ وقد يكون الهدف من الحملة الإعلامية الحالية إثارة العداء تجاه الأقلية النوبية، وإيجاد جو يفضي إلى إصدار حكم يعيدهم إلى السجن.
تجريم «البحث»
وطال الباحثة أيضًا نصيب من الهجوم الذي طال النوبيين؛ لدفاعها المتكرر عنهم، فيما تراه محاولة لتجريم البحوث الأكاديمية في ظل نظام السيسي.
وأضافت: التحقتُ بالجامعة الأميركية في القاهرة منذ سبتمبر 2008، والآن أنا أستاذة في علم الاجتماع، ونشرت مقالات عن القمع المستمر على المجتمع المدني؛ لكنّ ما أثار الحملة الإعلامية زيارتي الأخيرة إلى قرى نوبية.
وعلى كل حال، دفع باحثون آخرون في مصر ثمنًا أعلى بكثير مما دفعته؛ ففي 2015 حكم على زميلي في الجامعة الأميركية «عماد شاهين» بالإعدام، في محاكمة هزلية، كما اختفى طالب الدكتوراه «جوليو ريجيني» ثم عثر عليه مقتولًا خارج القاهرة وعلى جسده آثار تعذيب، ويقول المدّعون الإيطاليون إنّه كان تحت المراقبة ثم اختفى إلى أن عُثر عليه مقتولًا؛ بسبب أبحاثه عن النقابات العمالية في مصر، بالرغم من أنّها لم تتهم أحدًا بقتله حتى الآن.
في النهاية، النوبيون مواطنون مصريون يطالبون بحقوقهم التي كفلها لهم الدستور المصري، وهم ليسوا انفصاليون، وليسوا جزءًا من مؤامرة أجنبية، ولا أنا أيضًا؛ واللغة الملتهبة التي يستخدمها الإعلام المصري، الذي تسيطر عليه الدولة ضد النوبيين، جزءٌ من أشكال التحريض العنصري الذي ينبغي إدانته، وإطلاق هذه الحملة بالتزامن مع إعادة انتخاب عبدالفتاح السيسي يكشف أنّهم غير آمنين المدة المقبلة.