كانت «الرقّة» محافظة تضجّ بالحياة، وتحارب المتصارعون في النزاع السوري للإجهاز على «تنظيم الدولة»، الذي اتخذها عاصمة لخلافته. وأثناء الحرب، تغيّرت ثلاث مرات؛ الأولى انتزعها «المعارضون» من الحكومة السورية، ثم أخذها التنظيم منهم وأعلنها عاصمة لخلافته، وأخيرًا انتزعها المقاتلون العرب والأكراد بدعم من القوات الأميركية.
و«الرقّة» معزولة عن بقية البلاد، والآن لا توجد فيها خطوط، وأبراج الهاتف لا تعمل؛ حتى اتصالات الطوارئ توقّفت. والآن يديرها مجلس مدني متحيّز لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، التي استعادتها وتقيم في منطقة «عين عيسى»، المركز الإداري الحالي لها؛ لكنّ سكّانها لا يجدون ما يسدّ رمقهم، ولا حتى يستطيعون تحمّل تكالف السفر خارج مدينتهم؛ وبالكاد يتواصل أعضاء مجلس الوطني مع نظرائهم في الأماكن الأخرى، خاصة وأنّ تنقلهم يتطلب نحو أربع ساعات ذهابًا وإيابًا.
هذا ما رصده «تامر الغباشي»، مدير مكتب صحيفة «واشنطن بوست» ببغداد، أثناء رحلة إلى المدينة السورية. وأضاف، وفق ما ترجمت «شبكة رصد»، أنّه حتّى الزيارة اليوميّة للصحفيين الأجانب من «كوباني» الكردية إلى «الرقة» مليئة بالمتاعب ونقاط التفتش الأمنية التي لا تنتهي؛ ما يجعلها تستغرق نحو أربع ساعات كاملة.
ويقول المقيمون في «الرقة» إنّ رحلتهم لخارج المدينة أثناء سنوات تنظيم الدولة، وحتى الآن، أشبه برحلة إلى الجانب الآخر من الكوكب؛ إذ يتعيّن على سكانها العرب تحمّل البيروقراطية المكثّفة للحصول على إذنٍ من السلطات التي يهيمن عليها الأكراد لمغادرتها. ثم تأتي أزمة تحمّل تكاليف التنقل؛ ويرى القادرون أنّ الخروج منها حاليًا سيشكّل لهم صدمة ثقافة، إن لم تكن حضارية.
رحلة معاناة
واضطر «يحيى الحيون»، البطريرك البالغ من العمر 60 عامًا، وعائلته التي تضم 22 فردًا، إلى بيع ما يملكونه لجمع 25 ألف دولار لإعادة بناء منزلهم المدمّر ومطعمهم «أبو حيون»، الذي تمتلكه العائلة منذ 50 عامًا تقريبًا. وكان يحيى مصممًا على إعادة المطعم إلى الحياة. لكن، للأسف، ثمّة عجز في مواد بناء حاليًا بالرقة.
أمضى يحيى أسابيع في إنهاء الأوراق الخاصة بتراخيص مغادرة المدينة والتوجّه إلى كوباني، بعدما أعدّ صديق له مواد البناء اللازمة. وفي قيادة أربع ساعات، شاهد يحي مناظر طبيعية بين أكوام الرماد والركام والمعدات المحطمة على التلال الخضراء المحيطة بمنطقة عين عيسى.
واتّجه يحيى إلى كوباني، وكلمّا اقترب لا يجد آثارًا للحرب سوى دوريات أمنية أميركية تنفرد بالطريق السريع، في سيارات دفع رباعي ذات ألوان رملية وهوائيات ضخمة؛ يصفها قائلًا: كان عالمًا مختلفًا عن عالمي، كنا نبيع خمسة كيلو كباب أو عشرة يوميًا، ثم أغلقنا فجأة بسبب غارة جوية قريبة، اعتدنا على الرحب، وافترضنا أنّ كل شخص في البلاد يعيش بالطريقة نفسها.
ورغم الانقطاع عن العالم الخارجي في السنوات الماضية، بسبب القيود الصارمة التي فرضها تنظيم الدولة على القنوات الفضائية والإنترنت؛ عرف يحي من قنوات الدعاية الخاصة بالتنظيم أنّ هناك معركة في كوباني عام 2015، والآن يرى أنقاضها بعينيه.
صُدم يحيى مما رآه، وبالرغم من اشتداد القتال في كوباني؛ فالمدينة استطاعت بأعجوبة أن تلتقط نفسها وتعيد نفسها إلى الحياة من جديد، وبالرغم من المباني المكسوّة بالرصاص والطرق المزدحمة، لم يبدُ أنّ المدينة خارجة من حرب ملحمية كما أكّد تنظيم الدولة من قبل.
حتى إنّ حانة ومحلّ بيع خمر كانا يعملان، وبعدما اشترى يحيى مواد البناء التي يحتاجها توقّف لتناول مشروب منها؛ وقال ساخرًا: أطلقت النار على ويسكي وشربت الهاينكن، وكان عليّ أن أتغلّب على الصدمة التي تعرّضت لها بطريقة ما؛ لأنّ كل ما كنا نسمعه «كوباني، كوباني، كوباني»، ولم يكن هناك سوى كوباني.
في محيط الصراع
بعد عشرة أيام في الرقة وجوارها قضاها مراسل صحيفة «واشنطن بوست» على الحدود بين سوريا والعراق، يقول: كلما ابتعدنا شمالًا تعمّقنا أكثر في محيط الصراع؛ حيث تنتشر مساحات التلال في المزارع ومحطات النفط الضخمة، وبمجرد وصولنا إلى الحدود، وفي أثناء انتظارنا عبور قارب نحو نهر دجلة من كرد سوريا إلى قرنائهم في العراق؛ كانت هناك أنقاض بمثابة ذكرى لما جرى في الحرب السورية.
وتزامن وصولنا إلى وجهتنا المرجوة مع تجمّع حشد من المواطنين الأكراد والمقاتلين لتكريم رجل عراقي كردي مات في القتال بعفرين أثناء هجوم تركي.