طوال تاريخهم، تعامل القادة الأميركيون مع الاتفاقيات والمعاهدات بناءً على مبدأ «إذا لم تُخالف بنودها فلا تطالب بتعديلها»؛ لكنّ دونالد ترامب يحكم بمنطق آخر: غرائزه وتحيّزاته. ومثّل انسحاب أميركا من الاتفاق النووي ضررًا لدول الاتحاد الأوروبي أكثر من إيران، وهو ما فسّر الزيارات المتتالية لقادة أوروبيين إلى أميركا لإقناع رئيسها بالعدول عن مسعاه.
وكانت لدى الأوروبيين أسبابهم الخاصة؛ فإيران لم تنتهك الاتفاقية، وجاءت تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية دائمًا في صالحها، وتؤكّد أنّها ملتزمة ببنود الاتفاق. وقال «يوكيا أمانو»، المدير العام للوكالة، إنّ إيران تنفذ جميع التزاماتها بموجب الاتفاقية؛ داعيًا كوريا الشمالية إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن وفتح منشآتها أمام جهات التحقيق الدولية.
والسبب الثاني أنّ هذه الصفقة الأفضل المبرمة مع إيران، وأبقت طموحاتها مكبوتة، وحدّت من قدرتها النووية نوعًا ما، والسبب الآخر أنّ الصفقة لن تضر إيران وحدها؛ بل ستطال جميع الدول المرتبطة معها باتفاقيات تجارية واستثمارات بمليارات الدولارات، مثل فرنسا وبريطانيا وغيرهما.
هذا ما يراه المحلل السياسي بمؤسسة أوبزيرفر «رافي جوشي» في مقاله بصحيفة «يوراسيا ريفيو» وترجمته «شبكة رصد»، مضيفًا أنّ الانسحاب أضرّ بصورة أميركا أمام العالم أجمع، ضاربًا بمصداقيتها؛ وبالتالي لن يثق أحدٌ في اتفاقها مطلقًا على أيّ صفقة، وهو ما سينعكس بالمثل على كوريا الشمالية التي أعلنت نيتها وقف أنشطتها النووية.
ولم يتراجع ترامب عن الاتفاق النووي فقط، بل انسحب أيضًا من اتفاقية باريس بشأن تغيير المناخ، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا»؛ ما أثار مخاوف اقتصادية عالمية بسبب سياسات أميركا المتهوّرة.
دوافع ترامب
ويمكن وصف دوافع ترامب السرية من وراء خطواته وسياساته بـ«الهوجاء»، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا برغبته الشديدة في تدمير إيران، وهو الهدف الذي تسعى إليه أيضًا «إسرائيل» والسعودية، الحليفان العظيمان لترامب؛ فزيارات ابن سلمان ونتنياهو إلى أميركا في الماضي تعلّقت بهذا السبب تحديدًا، وشرعتا في إقناعه بضرورة الانسحاب من الاتفاق وعزل إيران.
وتعاني السعودية من تدهور اقتصادي صعب؛ بسبب انخفاض أسعار النفط إلى حدّ مبالغ فيه منذ 2015 إلى 2017، إضافة إلى الحرب الكارثية في اليمن، وإنفاقها مليارات الدولارات بجانب الخسائر البشرية، وعبثية الحرب في النهاية. والآن، تريد السعودية أن ترفع أسعار النفط مرة أخرى؛ في محاولة منها لسدّ العجز في الميزانية، الذي تخطّى مستويات غير مسبوقة.
لكن، لسوء حظ المملكة، رفع أسعار النفط قرار ليس بيدها؛ ويتوقف على الإجراءات التي سيتخذها ترامب تجاه النفط الإيراني، من فرض عقوبات على تصديره وما شابه؛ ما سيتسبّب في رفع أسعاره مرة أخرى، وهذا أمر غير مؤكد حتى الآن.
وعلى مدار العقود الماضية، كانت العلاقات الأميركية السعودية جيّدة نوعًا ما، ودأب رؤساء أميركا المتعاقبون على إزالة منافسي المملكة من المنطقة واحدًا تلو الآخر، من صدام حسين إلى معمر القذافي، وطالب الملك السابق «عبدالله» وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس في 2008 بقصف المنشآت النووية الإيرانية؛ لكنّ طلبه رُفض.
ماذا سيحدث لإيران؟
كان رد الفعل الإيراني الأوليّ متوقعًا؛ إذ أعلن الرئيس حسن روحاني التزام بلده بالاتفاق رغم انسحاب أميركا. وحتى الآن، لم تقرر الدول الخمس الأخرى «بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين» ما سيفعلونه ردًا على الانسحاب الأميركي. لكنّ هناك تقارير تذكر أنّ القادة الأوروبيين سيجتمعون بنظرائهم الإيرانيين يوم 14 مايو الجاري؛ للاتفاق على الخطوات المقبلة.
وداخليًا، يواجه روحاني معارضة من رجال الدين المحافظين في البرلمان، إضافة إلى «الحرس الثوري» الذي استفاد كثيرًا من اقتصاد السوق السوداء المزدهر في إيران.