أثار التقرير الذي نشره موقع «موند أفريك» الفرنسي المختص بالشؤون الإفريقية، بتوقيع رئيس تحريره نيكولا بو، يوم الإثنين، حول إحباط انقلاب محتمل في تونس، مزيجا من مشاعر الغضب والصدمة رغم علم التونسيين بمحاولات سابقة للإمارات والسعودية هادفة إلى تخريب ما أمكن من إنجازات الثورة الشعبية ونتائجها السياسية.
وكشف تقرير نيكولا بو، وهو أحد الصحفيين الذين يتمتعون بمصداقية عالية في عالم الإعلام الفرنسي والصحافة الاستقصائية، خصوصا أن المخطط الإماراتي لم تكن السعودية ولا مصر ولا محيطون بالرئيس الأميركي دونالد ترامب بعيدين عنه، للتخلص من حركة النهضة والتيار الإسلامي عموما، ومعه كل الطاقم السياسي الحاكم اليوم، وإعادة أركان النظام المخلوع إلى الواجهة من خلال تنصيب كمال مرجان (وزير دفاع زين العابدين بن علي) مثلا في رئاسة الحكومة بدل يوسف الشاهد.
لكن، وبحسب الموقع الإلكتروني الفرنسي، فإن استخبارات فرنسا وألمانيا والجزائر اكتشفت المخطط وأبلغته إلى السلطات التونسية، ليقوم الشاهد بإطاحة براهم فورا، خصوصا أن الأخير كان مفروضا فرضا على الشاهد «الذي لطالما كان محميا من الرئيس الباجي قائد السبسي».
والسيناريو المطروح ربما يكون «ماركة مسجلة» لأساليب تعاطي دولة الإمارات، ومعها السعودية، مع كل ما حصل في بلدان الثورات العربية، لجهة التخطيط مع قوى محلية نافذة، غالبا ما تكون عسكرية تنتمي إلى «الدولة العميقة» في هذه البلدان، على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورات، وإعادة رموز تلك الأنظمة إلى السلطة تحت شعار ضرورة التخلص من الإسلاميين والإخوان المسلمين تحديدا، ومن القوى المستقلة الرافضة لتبعية سلطات بلادها إلى مراكز النظام العربي الرسمي.
وفي تقريره المنشور يوم الإثنين، يكتب الموقع أن وزير الداخلية المُقال (براهم) «أخطأ التقدير حين بلغ به الكبرياء حد الاعتقاد بأنه سيصبح قائد اللعبة السياسية في تونس بفضل أصدقائه الإماراتيين»، مضيفا أن رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد، كان يشكّ دائما في ولاء الوزير المذكور، حتّى تسنّت له فرصة إزاحته أخيرا بعد حادثة غرق المركب.
ويضيف الموقع أن «السبب الحقيقي للإقالة هو الاجتماع الليلي الأخير في جزيرة جربة التونسية، والذي ضم براهم ومسؤولا في الاستخبارات الإماراتية، العائد لتوّه من باريس؛ حيث عقد الاجتماع التمهيدي لمؤتمر ليبيا»، نهاية مايو الماضي.
ويضيف أنه خلال الاجتماع المذكور، رسم «كل من الوزير التونسي وضيفه الإماراتي خريطة الطريق التي كان من شأنها أن تؤدي إلى تغييرات تمسّ رأس هرم الدولة، عبر إقالة الشاهد، وتعيين كمال مرجان بدلا منه، وإقصاء السبسي من رئاسة تونس لأسباب طبية، كما حصل مع الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، حينما استبعده خلفه بن علي».
وأشار خبر الموقع إلى أن براهم بدأ يتقارب مع شخصيات سياسية في تونس، منهم رضى بلحاج، أحد مؤسسي حزب «نداء تونس» الحاكم، والذي تركه قبل عامين لإنشاء حزبه الخاص «تونس أولا» كما حاول الطرفان أيضا، التونسي والإماراتي، عقد تحالف مع ابن الرئيس التونسي، حافظ قائد السبسي، وهو الرئيس الحالي لـ«النداء»، والذي بدأ الشاهد بالتصعيد ضدّه أخيرا.
وربطت مصادر لـ«العربي الجديد» بين هذا التحرك، وبين ما نشرته صحيفة «الخليج» الإماراتية، إحدى الأذرع الإعلامية للسلطات في هذا البلد، والتي كتبت في خبر لها: «فاقمت الإقالة المفاجئة لوزير الداخلية التونسي، لطفي براهم، الأزمة السياسية التي تغرق فيها البلاد منذ أشهر، وأثارت عاصفة من الانتقادات لقرار رئيس الحكومة يوسف الشاهد».
وتابعت خبرها التحريضي بالقول: «شهدت مناطق متفرقة من تونس احتجاجات شعبية للمطالبة باستقالة رئيس الحكومة الشاهد، والتنديد بقراره إقالة وزير الداخلية، وخطط غاضبون لنقل الغضب الشعبي إلى مقر الحكومة والرئاسة، لرفض قرارات الشاهد. ونظم محتجون تظاهرة شعبية، ليل الخميس- الجمعة الماضي، بولاية سوسة المتحدر منها وزير الداخلية المقال، بينما زحف غاضبون آخرون إلى ضاحية القصبة، مقرّ رئاسة الحكومة التونسية. ورأى سياسيون متضامنون مع براهم، أن الإقالة تعبر عن تسرّع الشاهد في إصدار قرارات غير محسوبة العواقب، على خلفية أن الوزير المُقال ساهم في عودة الاستقرار وتحجيم ظاهرة العمليات الإرهابية».
وفضحت صياغة الخبر في هذه الصحيفة، دعما إماراتيا واضحا لوزير الداخلية المقال، وتحسرا على إبعاده، لكنها حملت أيضا بطريقة غير مباشرة دعوة للعصيان والتوجه إلى مقرّ الحكومة بالقصبة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولمّحت إلى «زحف» على مقر الحكومة معتبرة أن «قرار رئيسها، الشاهد، كان غير محسوب العواقب».
ليس هذا الأمر غريبا في السياق الإماراتي المعادي للمسار الديمقراطي الذي اختاره التونسيون، لكنه عكس بشكل أو بآخر رهانا على براهم، رهان لم يكن موضوعيا ولا مفهوما في سياق توزع مراكز القوى في تونس، فلا حزب خلفه ولا ماضٍ سياسي معروف له، باستثناء مسيرته في إدارة الحرس الوطني، الدرك.
والدعم الإماراتي بدأ منذ زيارة قام بها براهم إلى السعودية، وأكدت المصادر أن «الزيارة كانت بطلب من براهم نفسه»، وربما تكون بإيعاز من دوائر نفوذ أرادت أن تستثمر في صعوده. ولكن نشر تفاصيلها بعد ذلك كشف الخيوط وطرح الأسئلة وتنبّه الجميع إلى أن طامحا جديدا دخل على خط الصراع على السلطة، وبتأييد خارجي.
وظلّت تلك الزيارة غامضة لكثيرين رغم ما أثارته من أسئلة حول حفاوة الاستقبال وعودة براهم بطائرة ملكية إلى تونس واستقباله غير المعتاد من قبل الملك السعودي.
وأشارت المصادر إلى أن «براهم قد يكون التقى مسؤولين إماراتيين في السعودية، من دون أن تنفي أيضا إمكانية التقائه ببعضهم في تونس. وحمل تأييد بعض المواقع المدعومة إماراتيا لبراهم خارج تونس وحديثها عن تصديه للإسلاميين والشاهد، رهانات على هذا اللاعب الجديد».
مع ذلك، فإن احتمال حصول انقلاب في تونس يبقى صعبا، بحسب مصادر مطلعة؛ بسبب دفع التونسيين أثمانا باهظة من أجل ديمقراطيتهم.
ولم يكن الشاهد أساسا صاحب فكرة تعيين براهم، الذي كان من ضمن من اقترحهم رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، خصوصا أن براهم كان يدير جهاز الدرك الذي حقق نجاحات أمنية كبيرة في الحرب على الاٍرهاب. وكان من الطبيعي أن يكون أحد المرشحين لحقيبة هي في العادة حقيبة تقنية وليس سياسية. وطُرح اسمه من بين أسماء أخرى عرضت كلها على وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي لإبداء الرأي فيها. واختار الزبيدي براهم بحكم إلمامه بتفاصيل الحرب على الاٍرهاب.
ولكن يبدو أن رهانات البعض عليه وطموحاته الجديدة قد وضعت براهم في دائرة الضوء ورفعت من حجم هذه الرهانات، وسجلت عودته إلى تونس من السعودية بداية الجفاء مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد. حتى إن بعض التسريبات ذكرت أن «الخط كان مقطوعا بين الرجلين لفترة طويلة وأن هناك صراعا بدأ يتنامى بينهما وكان من الطبيعي أن يقود إلى هذه النتيجة».
وأضافت المصادر أن «حركة النهضة قد تكون استشعرت وجود دوائر نفوذ دخلت على خط النقاشات بشأن الحكومة الجديدة راغبة في خلط الأوراق وفرض واقع جديد، لذلك كان تشبثها بالشاهد قويا لإحباط هذه النوايا».
وقالت مصادر برلمانية، إن «هناك اتصالات تمت بين بعض النواب بعد نشر هذا التقرير الفرنسي لدعوة كل من يهمه الأمر لجلسة مساءلة لكشف حقيقة هذا الملف، وربما توجه أسئلة للوزير السابق ولكل من له علاقة بالقضية والوقوف عند ملابساتها إما عبر أسئلة شفهية أو في إطار لجنة الأمن والدفاع».
المصدر: العربي الجديد