ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال، خشية أن يختلط موقفي هذا بمواقف والدي الشيخ راشد الغنوشي، لكنني خيرت في نهاية المطاف أن أعبر عن رأيي الشخصي بحرية، وبعيدا عن كل القيود الشخصية أو الحزبية.
يزور ولي العهد السعودي تونس خلال الأيام القادمة، مثقلا بجريمة قتل بالغة البشاعة هزت الضمير العالمي وشغلت وسائل الإعلام الدولية ووسائط التواصل الاجتماعي لأشهر متتالية، مثلما هو مثخن بسجل من القمع طال حتى أبناء عمومته وأركان حكمه.
قوبلت هذه الزيارة بمستوى رفض شعبي غير مسبوق، على نحو ما تبرزه مواقع التواصل الاجتماعي. كما أثارت قدرا كبيرا من السخط في أوساط المجتمع المدني، من هيئات الصحفيين والمحامين والطلاب وغيرهم.
استشعر الناس بحسهم البسيط أن هذه الزيارة ليست حبا في تونس والتونسيين، بل بغية تبييض صفحة ولي العهد الذي بات منبوذا في جل العواصم العالمية، رغم كثرة ماله وجلبة رجاله. ولا أحسب أن أهل تونس الذين انتفضوا لحريتهم، ستستهويهم حفنة من الدولارات، فالكرامة عندهم قبل المال المغمس بالدماء.
كان من الممكن أن تكون هذه الزيارة عادية وروتينية، شأنها في ذلك شأن زيارات الرؤساء والملوك العرب التي لا تأتي غالبا بالجديد، وكان يمكن أن نرى فيها خطوة إيجابية لدعم أسس التعاون والتضامن العربيين، لولا أن هناك مجموعة من العوامل تخرجها عن نطاق المعقول والمقبول.
منذ اندلاع ثورتها، ناصب حكام السعودية تونس العداء وعملوا على تعويقها وإنهاكها بشتى السبل، خشية سريان عدوى الديمقراطية فيها لعموم المنطقة.
لم تتردد الرياض في استضافة الرئيس المخلوع، ثم طفقت، بمعية ولي عهد الإمارات، محمد بن زايد، تشكل محورا مضادا وضع على رأس أولوياته الإطاحة بموجة التغيير العربية وتخريبها، عبر دعم الانقلاب العسكري في مصر، وبث الفوض في ليبيا واليمن، والسعي لإجهاض تجربة تونس الديمقراطية الوليدة بكل السبل، المخفية منها والمعلومة..
ما الذي أيقظ ضمير حكام الرياض اليوم فجأة فيمموا وجوههم شطر تونس، محملين بعبارات الأخوة ووعود الاستثمار، وهم الذين استعدوا ثورتها وما انفكوا يتحسرون على مخلوعها؟
في رقبة ابن سلمان جريمة قتل مدبرة بأمر وتوجيه منه ومن زمرة المحيطين به، نفذت في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، على ما أكدت كل التقارير الدولية.. جريمة مروعة تذكرنا بالعصور الوسطى وحكامها الإطلاقيين الذين لا يتورعون عن جز الرقاب وتقطيع الأوصال والتمثيل بالجثث، إشباعا لغرائزهم في الانتقام وشهوة الحكم.
هل ثمة ما يبرر بمنطق الأخلاق أو الدين أو العقل استدراج صحفي وإزهاق روحه وتقطيع جسده إربا إربا، ثم تذويبه بالحامض الفوسفوري، والتخلص مما تبقى منه في مياه المجاري، فلا يبقى منه أثر على وجه البسيطة، ولا قبر تقرأ عليه فاتحة الكتاب؟
ليس مقبولا من تونس وثورتها أن تستضيف ضالعا في جريمة مروعة صعق لها العالم، وبات جل زعمائه يترددون في مجرد مصافحته خشية ضغط الرأي العام في بلدانهم.. هذا إذا استثنينا ترامب الذي ما انفك يناور ويمد له حبل النجاة من عمق الهاوية التي تردى فيها، وهو يدرك أنه سيلفه قريبا حول رقبته ليبتزه أكثر مقابل السكوت على فضيحته المدوية..
ليس سرا أن بعض مراكز الحكم في تونس باتت تراهن على امتطاء مركب المحور المضاد لثورات الربيع العربي، ولو كلّف ذلك البلاد أمنها واستقرارها وتجربتها الديمقراطية. وهي لا تجد حرجا في الارتماء في أحضان داعمي الانقلابات والدكتاتوريات المعادين لإرادة الشعوب وتحررها. فمعركة الحكم عندها هي الأهم، وهي فوق مصالح البلاد وأولويات الوطن. وهذا لعمري للعب بالنار وتدمير لهم قبل غيرهم..
مقتل خاشقجي كشف الستار عن مدى توحش أنظمة الحكم العربية وصلفها وعربدتها، فما جرى لجمال ليس إلا صورة مكثفة البشاعة لما يقع في المعتقلات والدهاليز المظلمة العربية من صلف وامتهان للذات البشرية ورعب أسود.
وهو شهادة مدوية على ضرورة الفكاك من هذا النمط من الحكم المظلم الدموي، الذي تارة يخفي سوأته تحت عباءة الدين وتارة خلف واجهة الحداثة.
يجثم على صدور العرب مشرقا ومغربا حكم مستبد، يتراوح بين عساكر عنيفين مغامرين، وملكيات مطلقة تتحكم في السلطة والثروة وتمتلك الأرض ومن عليها من بشر وحجر.
الحاكم هنا قوة خارقة فوق البشر، السلطة عنده استحقاق طبيعي أوتيه بقوة السيف والنسل. هنا، لا يأمن المرء على نفسه أو ماله أو عرضه، فالحاكم هو من يبسط الرزق ويمنعه، وهو الذي يحيي ويميت، إن شاء أعلاك، وإن أراد زج بك في غيابات السجن أو أرداك قتيلا وغيّب أثرك.
لذا، يمكننا أن نفهم ترديد رجالات النظام السعودي في معرض الدفاع عن جريمة قتل خاشقجي بأنه مواطن سعودي، ولسان حالهم يقول: «الرجل سعودي ومن حق ولي أمره أن يفعل فيه ما يشاء، بما في ذلك تقطيع أوصاله بالمنشار الكهربائي.. ما دخلكم أنتم، في ما يصنع صاحب الملك في ما يملك؟».
على الجهة الغربية من العالم العربي نجحت تونس، وسط الاأعاصير والمؤمرات والدسائس من محيطها العربي بقيادة الرياض وأبو ظبي، في أن تحث الخطى لبناء حياة ديمقراطية ناشئة وتتخلص من الحكم الاستبدادي والقهري، عبر برلمان حر ومنتخب وأحزاب متنافسة ومجتمع مدني متحرك، ومحاولات دؤوبة لترسيخ حرية القضاء والصحافة، ومنع التعذيب وضمان المحاكمات المستقلة والعادلة، والحق في مساءلة المسؤولين والوزراء في البرلمان امام أنظار الشعب.
هذا لا يعني أن أوضاع تونس مثالية، أو انها تعافت من كل عاهاتها وأنجزت كل ما تصبو إليه، لكنها بكل تأكيد وضعت نفسها على خط التحرر السياسي وفِي الاتجاه الصحيح للتاريخ والمستقبل.
نقيض كل هذا المتربع على الجهة المقابلة، هو نموذج الحكم السعودي المطلق، المغلف بشرعية خدمة الحرمين، حيث يفعل الحاكم المطلق ما يحلو له دون حسيب أو رقيب، فبيده السلطة والثروة وشهادات الحياة والموت، والدين والأعتاب المقدسة وكل شيء.
لكن إرادة الشعوب في الحرية والفكاك من سجن الدكتاتوريات وسطوة الحكم الفردي المنفلت من عقاله؛ تظل أقوى من سلطة المال والنفط والقمع.
مهما كانت الانتصارات الجزئية التي تسجلها، تظل الثورات المضادة في نهاية المطاف ثورات مضادة، تجدف ضد مسار التاريخ وإرادة الشعوب.
الثورة التونسية، ومهما قيل في تبخيسها والحط من شأنها، هي الأفق المستقبلي للعرب. أما أنظمة البطش والاستبداد، فبعض من بقايا ماض بائس مقيت زائل لا محالة، اليوم أو غدا.