قال الكاتب البريطاني ديفيد هيرست: إن المتابع لمساعي الإماراتيين والسعوديين، لـ«فرض أنفسهم على اليمن ومصر وتونس وليبيا، يعلم ما الذي يحاولونه الآن، في شوارع الخرطوم».
وأوضح هيرست بمقاله له في موقع “ميدل إيست آي” البريطاني ترجمته «عربي21» أن ما جرى في مصر وليبيا ويجري في السودان و”لا يرغبون قطعا في رؤيته، هو أن تدب الحياة من جديد، في حكومة مستقلة مدنية، وممثلة للشعب في السودان”.
ولفت إلى أن خطة السعودية والإمارات في السودان، تتكون من أمرين: «الأول تعزيز وتسليح ضباط الجيش المتنفذين، الذين يفاوضون المتظاهرين، والثاني استخدام الزعماء المدنيين، الذين يبرزهم الحراك الحالي، لتطهير الجيش والحكومة والجهاز المدني والمحاكم من الإسلاميين».
وفيما يلي نص المقال:
ما لا يريده السعوديون والإماراتيون قطعاً هو ألا تدب الحياة من جديد في حكومة مستقلة مدنية وممثلة للشعب
على مدى شهر من الاعتصام، اقتطع الثوار السودانيون لأنفسهم حياً صغيراً في وسط العاصمة الخرطوم، بحواجزه وخيمه وبمنظومة النقل الخاصة به لجلب المجموعات، وبأجهزة تكبير الصوت.
لقد أصبح فتيان النفق الذين يضربون قضبان جسر السكة الحديد من فوق وصفائح الحديد من تحت بمثابة بندول لأنغام الثورة.
يرفضون المغادرة حتى تسلم القوات المسلحة السلطة لحكومة مدنية، وهم في سبيل تحقيق هذا الهدف، ومن باب الاستمرار في الضغط، يتحملون درجات الحرارة الحارقة في نهار رمضان.
ولكن ما يهم أيضاً هي تلك الأصوات الأهدأ التي تسمع داخل اجتماعات ما وراء الكواليس. كما لا يقل حسماً للأمر ذلك الذي يطير إلى داخل البلاد ومن يطير خارجاً منها.
سحق الثورة
لن يستغرب أي متابع لمساعي الإماراتيين والسعوديين لفرض أنفسهم على اليمن ومصر وتونس وليبيا، وهو نفس ما يحاولونه الآن في شوارع الخرطوم.
وهو نفس الأسلوب الذي اتبع في مصر أو بالفعل في ليبيا. فما لا يرغبون قطعاً في رؤيته هو أن تدب الحياة من جديد في حكومة مستقلة مدنية وممثلة للشعب في السودان.
جاء الآن الدور على السودان. تتكون خطتهم من خطوتين: تعزيز وتسليح ضباط الجيش المتنفذين الذين يتفاوضون مع المتظاهرين واستخدام الزعماء المدنيين الذين يبرزهم الحراك الحالي لتطهير الجيش والحكومة والجهاز المدني والمحاكم من الإسلاميين.
وما أن يتحقق ذلك لهم حتى يتصدر رجلهم القوي في السودان ويستلم زمام الأمور، وهو نفس الأسلوب الذي اتبع في مصر أو بالفعل في ليبيا. فما لا يرغبون قطعاً في رؤيته هو أن تدب الحياة من جديد في حكومة مستقلة مدنية وممثلة للشعب في السودان.
النقود تتكلم
يتوفر لديهم البند الذي يحتاجه السودان بإلحاح بعد تطاير معظم موارده النفطية، ألا وهو المال.
لعقود مضت، كانت الطريقة الوحيدة لتحويل الأموال إلى داخل السودان أو إلى خارجه (مع العلم أن العقوبات الاقتصادية والتجارية الأميركية لم ترفع إلا قبل عامين) كانت تتم من خلال مصرفين: أحدهما مملوك سعودياً، وهو بنك فيصل الإسلامي، والآخر إماراتي، بنك أبو ظبي الوطني.
لم يفلح رفع العقوبات في جلب الانفراج، وحتى عندما تعرض الرئيس السابق عمر البشير لضغوط داخلية قوية حتى يسحب القوات السودانية من اليمن، حيث تشكل الجزء الأكبر من المقاتلين الأجانب، لم يتمكن من ذلك لأنه كان بحاجة إلى المال.
مثله مثل معظم جيران السودان، كان يخشى من فقدان الدخل الوارد من مجاميع المغتربين السودانيين الذين يعملون في المملكة.
تمتد الأذرع السعودية والإماراتية إلى الأماكن القاصية والارتباطات معها ترسخت منذ وقت طويل.
تم الإعلان عن الوفد المشترك السعودي الإماراتي الذي حل بالخرطوم، ولكن لم يكشف النقاب عن هويات الشخصيات المشاركة فيه.
وكان طه عثمان الحسين ضابط مخابرات سوداني أحدهم وحظي باهتمام البشير بعد أن كشف محاولة انقلابية مزعومة ضده كان يعد لها رئيس المخابرات السودانية السابق صلاح قوش.
سرعان ما أصبح الذراع الأيمن للبشير، لدرجة أنه قال ذات مرة: «أنا لست مدير مكتب الرئيس البشير بل أنا ابنه».
ظل الحسين يتردد على المملكة العربية السعودية والإمارات، جيئة وذهاباً، حتى ما لبث أن اكتسب لقب رجل السعوديين في السودان. وينسب إليه الفضل في إحياء التواجد الإماراتي في السودان والتمهيد لزيارة البشير إلى الإمارات في عام 2016.
وعندما احتاج ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى مرشد في أفريقيا، كان الحسين هو صاحب المهمة. كما ينسب إليه الفضل في صدور قرار رفع العقوبات الأمبركية بعد زيارة قام بها إلى واشنطن حيث التقى هناك بعدد من أعضاء الكونجرس.
ثم ما لبث الحسين أن طرد من منصبه في ظروف دراماتيكية. فقد ألقي القبض عليه في المطار بينما كان على وشك الركوب في طائرة متوجهة إلى الرياض في شهر يونيو 2017 – بعد عام واحد من حادثة اختراق وكالة الأنباء القطرية الرسمية، وقطع العلاقات الدبلوماسية وبدء الحصار الخليجي على دولة قطر.
ويقال إنه وجدت بحوزته وثائق كان السعوديون والإماراتيون يحتاجونها لإثبات ادعاءاتهم على قطر بأنها تدعم الإرهاب.
ثم سمح للحسين بمغادرة السودان، ولكن ها قد عاد إليها من جديد.
ماض دموي
محمد حمدان داقلو، والمشهور بلقب حميدتي، ضابط آخر من ضباط الجيش، يبدو أن ماضيه قد تعرض لعملية تنظيف تامة، ولكنه شخصية مركزية في الخطة الإماراتية للسودان.
يترأس حميدتي وحدة تسمى قوات الدعم السريع، وقد لفت الأنظار في صفوف المعتصمين في الخرطوم، الذين اعتبروه رجلاً نبيلاً بسبب رفضه – كما زعم – فض الاعتصام وإخلاء الميدان من المتظاهرين حتى لو تطلب ذلك إراقة الدماء وإزهاق الأرواح. يقال إنه رفض الأوامر، بل وألقى القبض على آمره، ثم مضى ليشكل المجلس العسكري المؤقت.
منذ تلك اللحظة، وحميدتي يتربع داخل قلوب المعتصمين في الميدان، ومن موقعه كنائب لرئيس المجلس العسكري، تجده يمارس نفوذه في عملية المفاوضات التي تجري مع جمعية المهنيين السودانيين وقوات إعلان الحرية والتغيير، وهما الطرفان اللذان يشاركان في المفاوضات نيابة عن المتظاهرين.
ولكن، هل كان ينبغي له أن يكون هناك؟
أيادي حميدتي ملطخة بالدماء، كما يقول المختص بالشؤون السودانية إريك ريفز في تدوينة له. صحيح أن نائب رئيس المجلس العسكري ليس واحداً من بين السودانيين الخمسة – بمن فيهم البشير – المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية والذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف بسبب المجازر التي ارتكبت بحق القرويين العزل في دارفور.
إلا أن منظمة هيومان رايتس واتش، والتي وثقت لعدد من الجرائم الخطيرة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في دارفور، تقول إن الدور الجديد الذي يمارسه حميدتي الآن لا ينبغي أن يحصنه من المساءلة والمحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها قواته هناك.
لقد كانت قوات الدعم السريع الأداة الرئيسية التي استخدمها البشير في إخماد التمرد في دارفور، ويعمل فيها عدد كبير من عناصر مليشيات الجنجويد، وعندما أدرك البشير المأزق الذي جد عليه خلال الشهور الأخيرة من حكمه، تحولت قوات الدعم السريع إلى حرس امبراطوري له.
طور حميدتي علاقة قوية مع السعوديين والإماراتيين في اليمن، حيث أن قوات الدعم السريع هي التي تشكل العمود الفقري للقوات السودانية التي تقاتل الحوثيين هناك.
جاء في مذكرة رفعها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية إلى مجلس الأمن الدولي ما يلي: “تشير التقارير بشكل مستمر إلى أن الفريق عبد العزيز ومحمد حمدان دقلو، الشهير باسم حميدتي، وكذلك الفريق علي الناصح القلا، هم الذين بيدهم كامل القيادة والتحكم.”
لقد طور حميدتي علاقة قوية مع السعوديين والإماراتيين في اليمن، حيث أن قوات الدعم السريع هي التي تشكل العمود الفقري للقوات السودانية التي تقاتل الحوثيين هناك. وقد أثار حميدتي جدلاً حينما أعلن أن 412 جندياً قتلوا في اليمن، الأمر الذي أدى إلى مطالبات في الداخل بسحب القوات من هناك.
تزعم مصادر الجيش السوداني أن الإماراتيين يمولون حميدتي ويزودونه بالأسلحة الثقيلة.
التودد إلى المعارضة
إلا أن لديهم وتدا آخر يعتمدون عليه، ويتمثل في الذراع التي يستخدمونها للوصول إلى مختلف مكونات التحالف الواسع لشخصيات المعارضة، بما في ذلك مريم صادق المهدي، نائب رئيس حزب الأمة وابنة رئيس الوزراء السابق.
وكانت مريم المهدي قد اعترفت في مقابلة تلفزيونية أنها توجهت إلى الإمارات العربية المتحدة مباشرة بعد سقوط البشير، ولكنها قالت إنها إنما ذهبت إلى هناك لتشكر الإماراتيين على استقبالهم لوالدها عندما أطيح به في انقلاب.
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز بشكل منفصل أن خمساً من قوى المعارضة السودانية، بما في ذلك الفصائل المسلحة، قامت مؤخراً بزيارة إلى أبوظبي لإجراء محادثات حول الانضمام إلى الحكومة التي يقودها العسكر. ومن كثرة أعداد من ذهبوا إلى هناك بعد سقوط البشير فقد أصبح يطلق على ذلك في الخرطوم «الهجرة».
بعد ذلك مباشرة تعهدت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بمنح السودان مساعدة قدرها 3 مليارات دولار.
نزاع بالوكالة
ثمة مخاطر واضحة من تحويل الثورة السودانية إلى نزاع بالوكالة بين السعوديين والإماراتيين الذين يدعمون ضباط الجيش والقوات العلمانية من جهة وتركيا وقطر اللتين تدعمان الإسلاميين من جهة أخرى.
من يملك تجنب ذلك هم أولئك الفتيان الذين يضربون على قضبان جسر السكة الحديدية ويرفضون مغادرة مركز العاصمة الخرطوم.
يكفي السودان ما عاناه حتى الآن من انقلابات وحروب أهلية. لقد جاء الإسلاميون بالبشير إلى السلطة، ثم ها هو فصيل من بينهم يعرب عن ندمه على ذلك، ونفس الشيء حصل مع الشيوعيين.
لا يخدم الطغاة إلا أنفسهم. ولكن هذه المرة، الكرة في ملعب حركة الاحتجاج، وهي التي بإمكانها لو رغبت أن تضمن التحول نحو نظام ديمقراطي حقيقي ممثل للشعب، بكل توجهاته وبكل فصائله.
أما الإقصاء، فلن ينجم عنه إلا البقاء داخل هذه الدائرة المغلقة، والعودة إلى تجارب الماضي.
وإذا ما أخفقوا، فإنهم سيكررون ما حدث في مصر، وسيجنون كل تداعياته. نعم، نفس الشيء يمكن أن يحدث في السودان، ولابد أن سيسي أو حفتر السودان جاهز وينتظر الإشارة حتى ينطلق.