شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

«نيويورك تايمز»: كيف صعد «بن سلمان» من الظل إلى السلطة؟

تنشر صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية مقتطفات لأهم ما جاء في كتاب “إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة”، والذي ألفه بن هوبارد مدير مكتب الصحيفة في بيروت، ونشره قبل أسابيع.

وتعرض «عربي21» ترجمة كاملة لهذه المقتطفات في عدة حلقات.

وأثار الكتاب ضجة كبيرة عند نشره، نظرا لأهميته، ولاحتوائه على معلومات مثيرة عن صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الظل إلى السلطة.

وفي ما يأتي الحلقة الأولى من هذه المقتطفات كما تقدمها «عربي21»:

الحلقة الأولى

محمد بن سلمان: صعود أمير سعودي

محمد بن سلمان هو الابن السادس للابن الخامس والعشرين لملك – باختصار كان في الأغلب سيطويه النسيان، ولكن الأمور لم تمض بهذا الشكل.

مقدمة: المشهور

عندما حان موعد كلام الأمير الشاب، الذي بات يدير أغنى بلد في العالم العربي، كانت القاعة الفخمة قد اكتظت تماما بجمهرة كبيرة من المستثمرين الدوليين ورجال الأعمال وأصحاب الملايين وأصحاب المليارات الواقفين تحت ثريا الكريستال الهائلة التي تتدلى من سقف القاعة.

كان ذلك في خريف 2017، وقد جاء الجميع إلى الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، لحضور مؤتمر فخم للاستثمار أطلق عليه بشكل غير رسمي «دافوس الصحراء» لإضفاء نفس اللمسة من الحصرية عليه وإعطاء الانطباع بأنه يأتي استمراراً لذلك الملتقى السنوي الذي يجمع أصحاب النفوذ من مختلف أرجاء العالم في جبال الألب السويسرية. إلا أن هذا المؤتمر كان له هدف مختلف، ألا وهو إقناع رجال المال المجتمعين هنا بأنه حان الوقت للمراهنة بقوة على المملكة العربية السعودية.

وكانت المملكة قد عملت بجد على مدى الأيام السابقة لإقناع آلاف الضيوف بأن أي انطباعات سلبية كانت لديهم حول المملكة العربية السعودية لم تكن صحيحة، أو كانت على الأقل في طريقها لأن تصبح غير صحيحة. فقد كان البلد يتغير، كما قيل لهم، وينفتح ويتخلص من ماضيه كمملكة إسلامية محافظة جداً وشديدة الانغلاق.

طالما اشتهرت المملكة العربية السعودية بشيئين اثنين: النفط والإسلام. أما الأول فيشكل بحيرة تقبع تحت رمال المملكة، وكان له الفضل في تحويل العائلة الملكية، آل سعود، إلى واحدة من أغنى السلالات في العالم، وفي منح البلد الذي يحمل اسم العائلة أهمية جيوسياسية ما كانت لتتحقق له بدون النفط. لقد شكلت الثروة النفطية الاقتصاد السعودي، وأغدقت على طبقة النخبة من الأمراء ورجال الأعمال ثراء عظيماً بينما بقي أغلب المواطنين داخل بيوتهم أو تقاضوا رواتب من وظائف حكومية دخلها جيد ولا تتطلب إلا القليل من الجهد.

أما الإسلام الرسمي في المملكة فلم يكن أي إسلام، وإنما الوهابية، ذلك التفسير المحافظ وغير المتساهل، والمنسوج ضمن تاريخ المملكة، والذي لقن أتباعه بأن عليهم أن يحذروا من غير المسلمين “الكفار”، والذي كان يحكم بقطع رؤوس القتلة وتجار المخدرات في الميادين العامة، وكان يحرم النساء من حقوقهن الأساسية. كانت المملكة أكثر تشدداً من معظم المجتمعات الإسلامية الأخرى، إلا أن وضعها كراع للأماكن الإسلامية الأقدس على الإطلاق، في مكة والمدينة، منحها نفوذاً لا مثيل له بين مسلمي العالم الذين يصل تعدادهم إلى 1.8 مليار نسمة تقريباً.

كان زعماء السعودية يعلمون بأن سمعة مملكتهم ليست على ما يرام، ولذلك نظم المؤتمر وخطط له بعناية حتى يواجه ما كان لدى الحضور من انطباعات سلبية حول البلد. قدمت للضيوف في ولائم عشاء دعاهم إليها الأمراء والمسؤولون لحوم الغنم المشوية وحلويات قشر الشوكولاتة داخل بيوت فارهة تحتوي على برك سباحة ومعارض فنية وخزائن مخفية للمشروبات الروحية. كان ظهور النساء بارزاً خلال البرنامج وكن يختلطن بحرية مع الرجال داخل مقهى فندق ريتز كارلتون دون أن تفرض عليهن قيود تجبرهن على تغطية شعورهن كما هو الحال في الأماكن الأخرى.

قدمت للمستثمرين عروض ناعمة لمراودتهم على الاستثمار في مبادرات كبيرة، وقيل لهم إن المملكة العربية السعودية ستصبح مركزاً عالمياً للشحن والنقل، وسوف تنتشر فيها مرافق الترفيه عن مواطنيها الذين يبلغ تعدادهم 22 مليون نسمة، بما في ذلك مدن الملاهي والسينمات والأماكن المخصصة لتنظيم الحفلات الموسيقية، وكل ذلك كان من قبل محظوراً لأسباب دينية. كما ستزدهر السياحة بفضل مشروع لتطوير المواقع التاريخية التي طالما ظلت مهملة وإقامة منتجع بيئي من الدرجة الأولى على ساحل البحر الأحمر. ولئن ساورت أحد الشكوك بأن هذه التغييرات حقيقية، فها هي المملكة توشك أخيراً على التراجع عن نظام طالما اعتبر دليلاً حاسماً على اضطهاد المملكة للنساء، إذ سيسمح لهن بحلول شهر يونيو من عام 2018 بقيادة السيارات.

كانت الرسالة واضحة، ومفادها أن تغييرات مهولة تجري على قدم وساق داخل المملكة العربية السعودية، وأن الرجل الذي يدفع باتجاهها هو نجل الملك، الشاب الغامض الذي لا يكاد يتوقف عن العمل ويدعى محمد بن سلمان. كان حينها في الثانية والثلاثين من عمره وقد نذر نفسه لإعادة تشكيل المملكة، بل والشرق الأوسط بأسره، في أسرع وقت ممكن.

جلوساً على كراس مخملية أو على سجادة حنطية، جاء المشاركون في المؤتمر لكي يتأكدوا من حقيقة الأمير الشاب، هل يعني ما يقوله؟ هل هو زعيم ذو رؤية ينوي فعلاً إخراج المملكة من ماضيها المحافظ أم أنه مجرد مبتدئ متعجل سوف يهوي بها إلى الأرض؟

سرت تمتمات سريعة في أرجاء القاعة بعد انفتاح باب جانبي، ثم ظهر الأمير.

كان يلبس زياً تقليدياً كالذي يرتديه الرجال السعوديون: فعلى بدنه ثوب أبيض طويل وعلى رأسه شماغ مزركش بالأحمر والأبيض يثبته في مكانه عقال أسود، ويلبس في رجليه نعال أسود. كان ممتلئ الجسم، ولعل ذلك بسبب حبه لتناول الوجبات السريعة. لحيته غير المرتبة تغطى وجنتيه، وكأنها تعبير عن انشغاله في العمل وعدم توفر الوقت لديه لكي يهتم بتهذيبها. محاطاً بمساعديه ومتبوعاً بمصوري الصحافة وكاميرات التلفزيون، صعد إلى المنصة وغاص في مقعد أبيض وثير.

لم يخرج إلى النور إلا قبل ثلاثة أعوام، فهو أمير من بين آلاف الأمراء، إلا أنه تمكن سريعاً من شق طريقه إلى قمة هرم السلطة في المملكة. عندما جلس والده الملك سلمان على العرش في عام 2015، منح ابنه صلاحية متابعة أهم الملفات في البلاد: الدفاع، الاقتصاد، الدين، والنفط. ثم، وبعد أن أزاح من طريقه أقرباءه الأكبر منه سناً، أصبح ولياً للعهد، فتهيأ بذلك ليكون التالي على العرش. ظل والده الرئيس الأعلى للدولة، ولكن كان واضحاً أن الأمير محمد بن سلمان كان هو الحاكم الفعلي للمملكة والمدبر لشؤونها.

تمييزاً له عن الكتلة الكبيرة من أقربائه داخل العائلة الملكية، راح السعوديون والمهتمون بمتابعة الشأن السعودي يطلقون عليه اختصاراً إم بي إس. كان رجلاً ضخماً يملأ بحضوره الغرف. سواء تحدث للعموم أو الخواص، تجده يتخلى عن العربية المعتادة بين الزعماء العرب ليتحدث بسرعة وبلكنة، ملوحاً بيديه الكبيرتين أثناء الحديث بصوت كالهدير. كثيراً ما يفيض بالحيوية، تخطر بباله الأفكار سريعاً فيتوقف عن الحديث فجأة قبل أن يتم جملته. أثناء لقاءاته مع المسؤولين الأجانب يستمر في بعض الأوقات في الحديث عن رؤيته لساعة أو أكثر دون أن يتوقف للأسئلة. يذكر أحد المسؤولين الأجانب أن ساق الأمير لم تتوقف عن الهز أثناء لقائهما، الأمر الذي يجعله يتساءل ما إذا كان ذلك بسبب قلق الأمير أو بسبب تعاطيه لمادة منشطة ما.

من على المنصة في ذلك اليوم، خاطب محمد بن سلمان مدير الجلسة بالإنجليزية ليثبت لضيوفه الأجانب أنه قادر على ذلك، ثم عاد ليتحدث بالعربية ليميط اللثام عن مشروع طموح آخر. إنه مشروع نيوم، تلك المدينة التي ستقام على مساحة معزولة من الصحراء بالقرب من البحر الأحمر، يصوغ قوانينها رجال الأعمال الذين تناط بهم مهمة إغراء كبار العقول في العالم ليأتوا ويمارسوا الإبداع على الأرض السعودية. تمهيداً لمستقبل ما بعد النفط واستغلالاً لأشعة الشمس السعودية، سوف تدار المدينة بالطاقة الشمسية وسيكون فيها من الروبوتات العاملة أكثر مما فيها من البشر. قال محمد بن سلمان إن نيوم ستكلف 500 مليار دولار وستكون ملاذ الحالمين، فهي ليست مشروع تنمية اقتصادية وإنما قفزة حضارية للإنسانية.

خُفضت الإنارة وشاهد الجمهور فيلماً مصوراً عن المدينة المقترحة، بعد ذلك سألت مديرة الجلسة، وهي صحفية أجنبية، ما إذا كانت الطبيعة المحافظة للمملكة دينياً ستعيق مشروعاً كهذاً يركز بشكل أساسي على المستقبل. نفى محمد بن سلمان أن يكون عدم التسامح جزءاً من التاريخ السعودي، وأصر على أن المملكة تسعى للتعامل والتعاون مع بقية العالم بما فيه فائدة الجميع.

وقال: «نحن لم نكن مثل هذا في الماضي، كل ما هنالك أننا نعود لما كنا عليه من إسلام معتدل متوازن منفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب. سبعون بالمائة من الشعب السعودي هم شباب دون الثلاثين من العمر. وبكل صدق، لن نضيع ثلاثين سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة. سوف ندمرهم اليوم، حالاً. نريد أن نعيش حياة طبيعية، حياة تترجم ديننا إلى التسامح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، وسوف نعيش مع العالم ونساهم في تنمية العالم بأسره».

لم يسبق أن تعهد زعيم سعودي بمثل ذلك على الملأ، فصفق له الجمهور بحماس شديد.

ولكن بعد أسبوعين، أرخى واقع أشد قسوة بظلاله.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023