كتب فراس أبو هلال:
خلقت الأنباء عن طلب تركي من القنوات المصرية المعارضة ضبط خطها التحريري حالة من البلبلة، والكثير من الإشاعات، والقليل من الحقائق!
التطورات التي شهدتها الساعات اللاحقة لانتشار الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام السعودية والإماراتية، وتلك القريبة من النظام المصري، تظهر أن الإشاعة التي نشرتها هذه الوسائل عن إغلاق القنوات وتحويلها لبث برامج المنوعات، غير صحيحة حتى الآن على الأقل. وهو ما يتماشى مع حيثيات الخبر الذي نشرته “عربي21″ نقلا عن مصادر متعددة متطابقة، أكدت جميعها أن المطلوب هو ضبط السياسة التحريرية، وليس إغلاق القنوات.
مصادر أخرى مرموقة، أكدت لــ”عربي21” أن الطلب التركي جاء بالتزامن مع لقاءات على مستوى لجان فنية بين تركيا ومصر، وأن أنقرة لم تكن تتابع محتوى هذه القنوات بعناية، وأنها طلبت منها مراجعة سياساتها التحريرية في ظل الشكاوى التي نقلت لها من الجانب المصري، ولكنها لن تقدم على إغلاقها؛ لأن في ذلك مخالفة للقوانين التركية.
هل يعني هذا أن هناك مشاكل تحريرية في هذه القنوات؟ لا أحد يجادل في ذلك حتى ممن يعملون فيها، ولكن هناك مبالغة كبيرة في وصف واقع القنوات وما يبث على شاشاتها، وتضخيم حجم الأخطاء المهنية في برامجها، في حين أن ساعات البث التي تمتد لأربع وعشرين ساعة لا يمكن اختصارها في ساعة أو اثنتين، وحتى يتم تقييم عمل القنوات هذه ومهنيتها، فلا بد من متابعة كل ما يبث على شاشاتها، وعدم الاكتفاء ببعض الفقرات الانتقائية من هذا البرنامج أو ذاك.
وللتأكيد مرة أخرى، فإن هذه القنوات تعاني من أخطاء مهنية، ربما يكون أهمها الارتفاع في نسبة “الخطابية” في برامجها، ولكن هذه الأخطاء هي في الحقيقة ليست ظاهرة إعلامية بقدر ما هي انعكاس لأزمة السياسة في مصر؛ أقفل النظام بعد الانقلاب مباشرة قنوات إعلامية محسوبة على التيار الإسلامي، ثم بدأ بعد ذلك بإقفال المجال السياسي والإعلامي بشكل عام. اعتُقل الصحفيون بالعشرات بتهم هزلية، ومنع أي نقاش لا يلتزم بما يريده النظام ليصل إلى مستوى منع الاختلاف حتى في التفاصيل الدقيقة، وتحول النظام بعد ذلك للسيطرة المباشرة على وسائل الإعلام من خلال الاستحواذ عليها عبر شركات تمتلكها أجهزة الأمن أو رجال أعمال يعملون لصالحها.
مع السيطرة الكاملة من قبل النظام على الإعلام والمجال السياسي برمته، كان طبيعيا أن يتجه الناس للإعلام المعارض من جهة، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرتفع سقف الخطاب في وسائل الإعلام التي تبث من تركيا، لمواجهة حالة الصمت المطبق التي فرضها النظام.
ومن العوامل التي زادت من حدة خطاب القنوات المعارضة، هو حجم القمع والاستبداد الذي يفرضه النظام في الداخل، والقتل اليومي، والاعتقالات، والتعذيب في السجون، وأحكام السجن العالية من قضاء غير مستقل، وخروج المعتقلين من وقت لآخر من السجون جثثا هامدة، وفي ظل هذه الحالة غير المسبوقة من الظلم والقمع، ارتفع مستوى الخطاب في القنوات المعارضة لمواجهة حالة غير مسبوقة من انسداد الأفق السياسي.
وإضافة لموت السياسة في داخل مصر، فقد فشلت المعارضة في الخارج أيضا بإحياء مشروع مصري معارض قادر على مواجهة النظام، وانتهت الكيانات المعارضة واحدا تلو الآخر؛ بسبب عدم قدرتها على مواكبة نشاطها بعمل جماهيري داخل مصر في ظل أجواء القمع غير المسبوقة، وهو الأمر الذي أدى لتحول الإعلام في الخارج إلى بديل للمعارضة السياسية، وبذلك يتحول الصحفي مضطرا إلى ناشط سياسي.
إن من يستحق اللوم هنا أولا وآخرا، هي سلطة الانقلاب التي قتلت السياسة في مصر، كما تتحمل المعارضة في الخارج جزءا من المسؤولية، فيما يحاول الإعلاميون جهدهم للموازنة بين عملهم كصحفيين والدور الذي وجدوا أنفسهم يقومون، فيه في ظل نظام دموي، ومعارضة لم تتمكن من بناء مشروع سياسي ناجح.
وعلى الرغم من أن السياسة هي المسؤولة عن بناء هذا النموذج من الإعلام، وليس العكس، فإن من الممكن أن تكون التطورات الأخيرة فرصة لتطوير الإعلام المصري المعارض، ليقترب أكثر من المهنية، ويبتعد شيئا فشيئا عن دور الناشط السياسي. ومع أن كل شيء ممكن في السياسة، إلا أننا نعتقد أن تركيا لن تقدم على إغلاق القنوات المصرية المعارضة؛ لأن ذلك يتعارض مع قوانين الدولة ومع الصورة التي تريد أنقرة تصديرها للخارج. وبذلك، يمكن أن تحول هذه القنوات الأزمة لمنحة، من خلال تطوير خطابها، ليصبح ممثلا لشرائح المصريين كافة، وليس فقط للمعارضة الغاضبة.