مقال للكاتب.. أنس التكريتي
شاركت يوم أمس في نقاش على تطبيق كلابهاوس الجديد في غرفة تناقش عنوان: «الإخوان من الداخل، مع قيادي سابق، كشف الملفات حصري»، وتبين أن القيادي السابق هو ثروت الخرباوي، فأصابتني حيرة حول وصف النقاش بأنه «حصري». فالخرباوي لم يدع قناة ولا برنامجا دُعي للحديث فيها، إلا واستجاب وانفتحت قريحته وأصابه إسهال شفهي حول هذا الموضوع. ولكن لا بأس، فالعادة في كلوب هاوس هو وضع العناوين الرنانة أملا في اجتذاب عدد أكبر من المستمعين.
ورغم أني طلبت التعليق وأعطي لي المجال للصعود إلى منصة المتحدثين بعد طلبي بحوالي ثلث ساعة، بقيت أنتظر دوري للحديث قرابة نصف ساعة أخرى حتى اضطررت للخروج لأجل اللحاق بموعد كنت مرتبطا به، ولكني وددت تسجيل عدد من الملاحظات:
أولا: ليس هناك جهد بشري على وجه الأرض، إلا ويمكن أن يوجه له النقد. فكلما زاد تاريخ ذلك الجهد وتوسعت دائرة تأثيره وارتفعت منسوب خطابات، إلا وكثرت أخطاؤه بنسبة طردية مع تلك الزيادة والاتساع. ولا يضير أحدا يبذل جهدا ويجتهد في تحقيق أهدافه أن يخطئ ما دام يعترف بخطئه ويعمل على تصحيح المسار وعدم تكرار الخطأ، بل يعد الخطأ حينها أهم كسب وإنجاز لذلك الجهد، حيث أنه يعمل على تصحيح المسار وإعادة تثبيت البوصلة. وهذا ينطبق على الإخوان وعلى غير الإخوان من الجهود ذات الطابع المجتمعي أو السياسي أو الإصلاحي أو الاقتصادي أو الفكري.. إلخ.
ثانيا: لأجل أن يكون النقد بناء ومثمرا ومفيدا لكل الأطراف، فلا بد أن ينبني على أرضية من المنهجية السليمة والمتسقة والثابتة، وإلا فالكلام الانطباعي والآراء الشخصية ستكون هي السمة الغالبة في ذلك “النقد”، وسيعتري النقد مزيج من العواطف والمبالغات والرؤى الخاطئة والمعلومات المغلوطة، فننتهي إلى لا شيء. فلا الناقد استفاد من تقديم نقده، ولا الجهة التي تعرضت للنقد استفادت من ذلك النقد بحيث أنها باتت قادرة على تصحيح مسارها وتعديل بوصلتها.
ثالثا: من أسوأ الناقدين «بالعموم وليس على الإطلاق» هم الذين كانوا سابقا جزءا من ذلك الجهد، ثم خرجوا منه «زعلا»، ويطلق عليهم في الغرب وصف Disgruntled، أي شخص «زعلان» وعنده حسابات يعمل على تصفيتها. ومرة أخرى أؤكد: ليس هذا في كل الأحوال وليس دائما، ولكنه هو الغالب، وذلك لأن هذا الشخص يحمل من العواطف السلبية تجاه الجهد أو المشروع تغطي على قدرته كي يكون متزنا في الطرح، ومفيدا في طبيعة وأسلوب تقديم القراءة الناقدة.
رابعا: يصبح هذا الشخص أسوأ بعشرات المرات، حين تدفعه جهة منافسة لذلك المشروع كي يزيد من حدة النقد ويبالغ في وصفه للمشكلات. وفي الغرفة مساء أمس كرر أحد مدراء النقاش قوله له وبعد أن تحدث الخرباوي لحوالي نصف ساعة شرّق فيها وغرّب: «ولكن لو سمحت يا دكتور ثروت عايزينك تكشف لنا معلومات جديدة، أو معلومات خاصة»، وكرر الخرباوي عبارة: «حكشف مسائل محدش يعرف عنها»، أو «حقول أشياء محدش سمع فيها قبل كده»، في محاولة لتأكيد استجابته لذلك «التحريض» وترحيبه به واجتهاده في إرضاء زبائنه، بينما الذي ذكره ملّ السامعون من سماعه عشرات المرات “قبل كده”، من خلال المقابلات واللقاءات الإعلامية الكثيرة التي أجراها السيد الخرباوي على مدار السنوات الماضية.
خامسا: مع استعدادي التام للسماع لوجهات نظر ورؤى أختلف معها كليا أو كثيرا، وتقبّل مناقشة من لا أتفق معهم وأن أستمع لرأيهم وتقبّل بعض آرائهم وتفسيراتهم واجتهادي الدائم أن أستفيد من تلك الحوارات، إلا أن النقاش في تلك الغرفة في الفترة التي كنت حاضرا فيها من حوالي السادسة حتى السابعة إلا ربع بتوقيت غرينيتش، وجدته مليئا بالتهويل، والمبالغات والنقولات غير المثبتة والادعاءات الفارغة، ويؤسفني أن أقول: الأكاذيب الفاقعة والفاضحة. كما أن الأسئلة، عدا سؤال حول جدوى مشروع الإسلام السياسي في العالم العربي، كانت أسئلة من الصنف «المليء»، أي كما يكون المسدس مليئا، بمعنى أن السؤال يحمل في مضامينه دفعا للمجيب بأن يجيب بطريقة معينة بل ربما يستنطقه أو يقوّله، ويعبر في كلماته عن توجه السائل دونما مواربة أو شك. فمثلا سأل شخص: ما رأيك فيمن يقول بأن الفكر المسموم لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية هي في الحقيقة منشأ القاعدة وداعش؟ طبعا تجاوب الخرباوي مع هذه الأسئلة بكل سعادة واندفاع وسرور.
سادسا: من بين الأكاذيب التي ساقها الخرباوي والتي حاول أحد المدراء تعديلها كي لا يفتضح أمر الرجل، أن الإخوان «كانوا وراء ما يسمى الربيع العربي بهدف إزالة الأنظمة في الدول الرئاسية»، وكذبة أن الإخوان المسلمين يملكون أموالا «مهولة»، وكذبة أن إبراهيم منير، في مقابلة أجراها مؤخرا، صرح بأنهم تواصلوا مع إدارة بايدن وبأنهم ينتظرون ردهم كي يلتقوا بالإدارة الأمريكية الجديدة، وكذبة أن أسامة بن لادن كان من الإخوان وكذلك أمه كانت هي الأخرى من الإخوان، وكذبة أن مصطفى مشهور «أحد المرشدين السابقين» هو من أسس جماعة القاعدة، وكذبة أن الإخوان هم وراء القاعدة وداعش، وكذبة أن الإخوان علاقتهم بالنظام الإيراني وبالذات مع الخميني علاقة قديمة وأصيلة ومتجذرة، وكذبة أن كمال الهلباوي، القيادي الإخواني السابق، عاد للندن لأجل العودة لجماعة الإخوان، وكذبات أخرى لا أذكرها، وكل ذلك في غضون ٤٥ دقيقة التي شهدت فيها الحوار. أما الادعاءات الزائفة أو التصويرات المبالغ فيها «وخصوصا تلك المتعلقة بدوره وأهميته والأسرار التي اطلع عليها والشخصيات التي أثر فيها وغيرها» فتحتاج لصفحات كثيرة، لا يتسع المجال لها. كل ذلك والمدراء يصفقون له ويهيلون عليه من الثناء ما يجعل السامع يضحك وكأنه يشاهد مسرحية هزلية وفاشلة.
سابعا: سألني أحد الزملاء: وماذا كنت تتوقع؟
الحقيقة كنت آمل وأتمنى أن أجد طرحا مفيدا ونقاشا ثريا في الأفكار والمبادئ والمضامين، ومقترحات يمكن أن ينبني عليها عمل، وترسيخ لقيم ومثل ومبادئ، ولو انتهى الأمر بتقديم تصور لا أتفق معه أو توجيه نقد لا أجده منصفا، ولكن أي شيء يمكن أن نعتبره إضافة لهذه الملف والذي تدور حوله نقاشات وندوات ومؤتمرات وتُكتب عنه أوراق أكاديمية وعلمية، من داخل جماعة الإخوان ومن خارجها. ولكن خاب أملي ولم أسمع إلا لجلسة غلب عليها الردح ومن شخصيات يبدو لي من سيرتهم المنشورة؛ أنه كان عليهم أن يتخلقوا بشكل أفضل من ذلك بكثير.
ثامنا: من أبسط قواعد المروءة أن تراعي عند الحديث عن خصمك، بل عدوك، حين يكون مسجونا أو مقتولا أو ممنوعا من لقاء أهله وأولاده أو مهجرا ومطاردا، ولا سيما إذا كان من يسبب له ذلك الضرر ظالم مستبد ديكتاتور طاغية قاتل. اختلف معه، بل خاصمه وعادِه إن شئت، ولكن لا تنزل عند سقف الأخلاق الأدنى مهما كان الثمن ومهما دفعت بك الضغوط لأن تفعل.
تاسعا: أمثال الخرباوي أكدوا أنهم يفتقدون إلى أبسط معايير المروءة والرجولة، واستعرضوا دناءة في الخلق مما يندى له الجبين ويستحي منه العاقل. بيني وبين شخص ما خصومة شديدة منذ أكثر من ١٣ سنة، ولكن يمنعني «ويمنعه أيضا» أن أتعرض له في العلن أنه كان بيننا «عيش وملح» وعشرة وتزاور وصحبة وجوار. أنتقده في أفكاره وفي مواقفه وآرائه وأنا أعض لساني كي لا أزيد، وأستحي أن أتكلم في ما هو أكثر من ذلك، لأنني في يوم من الأيام قضيت ليلي في بيته وتعشيت من طعام صنعته زوجته ولاعبت صغاره..
هؤلاء باتوا بضاعة أقل ما يقال عنها أنها خردة، بل هي أدنى من ذلك.
عاشرا وأخيرا: أنا أول من يطالب بأن تتم مناقشة قضية الإخوان المسلمين «وغيرهم أيضا من الحركات التي أثرت في مسيرة الشعوب والأمم فكريا وسياسيا ومجتمعيا»، وبشكل كامل ودونما خطوط حمر إطلاقا، وأنا من الداعين لأن تجري هذه المناقشات في العلن، وأن يدعى لها الخصوم «العقلاء والمحترمين» كما يدعى لها أعضاء الجماعة ومحبوها، وأن يناقش كل شيء: الفكر والمنهج والأهداف والوسائل والآليات والخطاب والرمزيات والإنجازات والإخفاقات والتحديات القادمة، وكل شيء.. ولكن بشكل منهجي سديد، ووفق قواعد المناقشة التي تفيد وتثري وتؤدي إلى تحسين المسيرة وضبط الأداء، وبعدل وإنصاف في محل الثناء والمديح وفي موضع النقد والذم.