يستعيد الكاتب والإعلامي الاستقصائي البريطاني «إيان كوبين» في هذه الورقة المطولة عن تداعيات أحداث 11 من سبتمبر في الولايات المتحدة، وما تبعها من غزو لأفغانستان ثم العراق، وهي ورقة نشرها في موقع «ميدل إيست آي»، وترجمها موقع «عربي 21».
من هنا انطلقت
كانت تلك ساعات الصباح الباكر عندما وصلت ضفاف “بانج”، النهر الذي يرسم الحدود الجنوبية لطاجكستان. كنت أرتعد برداً، وكان الظلام حالكاً.
كان حراس الحدود الطاجيك لطفاء بطبيعتهم، ولكنهم كانوا قد شربوا حتى الثمالة، وكانوا يمارسون أعمالهم ببطء. أما الروس المتواجدون عند نقطة أسفل منهم على امتداد الطريق الوعر ـ حرس الحدود الحقيقيين ـ فكانوا أقل ثمالة، ولكن أكثر جدية، وبنفس الدرجة من البطء.
كانت المعدية عبر النهر قارباً مسطحاً بمحرك جرار مثبت في وسطها. وكانت تندفع بواسطة رافعة مربوطة بالمحرك يمر من خلالها حبل ضخم، كل طرف من طرفي هذا الحبل الغليظ مثبت بواحدة من ضفتي نهر “بانج” المتقابلتين. كان يتم جرنا ببطء عبر النهر إلى أفغانستان.
ما أن توقفت المعدية حتى قفزت منها إلى اليابسة، لم يكن ثمة أضواء على الإطلاق. لست متأكداً من أنني جربت مثل تلك الظلمة الحالكة من قبل.
كنت أحمل على ظهري حقيبة ظهر سعتها خمسة وستون ليتراً تحتوي على حقيبة نوم وملاية وملابس ومواد تموينية ومعدات طهي، وكان مربوطاً على صدري حقيبة تحتوي على هاتف ستالايت ولابتوب، وكنت أحمل في كل واحدة من يدي وعاء كبيراً مملوءاً بالمياه النظيفة.
لم تكن تلك المرة الأولى، ولا حتى المرة الأخيرة، التي أجد فيها نفسي في موقع لا أعرف فيه شيئاً، لا مكان ولا أحد، مواقع مثل مورمانسك، بولاوايو، وبغداد. كل تلك الأماكن، وغيرها الكثير مما زرته أثناء مهنتي كمراسل، كانت مذهلة للوهلة الأولى.
كان متوقعاً مني أن أدرك بسرعة كنه ما يجري من حولي، ثم أصيغ ذلك الإدراك على شكل تقارير أبعث بها إلى إحدى الصحف في لندن.
إلا أن هذه كانت مختلفة عن كل المهام السابقة، لا تقل صعوبة عن بعض أسلافها. حيث لجت إلى منطقة من ذلك البلد لا يوجد بها الكثير من الطرق الممهدة ولا العلامات الواضحة، ولا يوجد بها لا كهرباء ولا مياه جارية. كانت في غاية الغرابة تلك الأرض التي وطأتها قدماي وكنت على وشك بدء العمل فيها.
لم أكن أقف في أرض غربية فحسب، بل كنت أعيش وأحاول العمل في عالم طرأ عليه تغيير كلي.
على بعد ما يقرب من سبعة آلاف ميل كانت بقايا البرجين مازالت تحترق ببطء، وكان عدد ضحايا هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) مازال مجهولاً. وفي واشنطن، كان رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش يتحدث عن “الحرب على الإرهاب” ويعلن عن وجود “لوحة إعلانات قديمة هناك في الغرب مكتوب عليها مطلوب حياً أو ميتاً”.
كانت “الحرب اللانهائية” على وشك الانطلاق.
من نوتنغهام إلى نيويورك
مثل معظم المراسلين الذين يغطون الأخبار أتردد في الكتابة عن نفسي، وعلى مدى أربعين عاماً من العمل الصحفي، بإمكاني إحصاء عدد المرات التي استخدمت فيها ضمير المتحدث “أنا”، والذي لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
فمهمتي هي مراقبة الناس الآخرين، وطرح الأسئلة على الناس الآخرين، وتسجيل ما يقوله أو يعمله الآخرون أو ما يحجمون عن قوله أو فعله، ولكن مثل كثير من الناس حول العالم، غدا في حياتي ما قبل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
في البداية جذبتني الكتابة عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الحكومات الغربية لأنني رأيت فيها خروجاً عن المألوف (والصحفيون يحبون الكتابة عن كل ما هو خارج عن المألوف ـ مصداقاً للحكمة التي طالما ترددت داخل غرفة الأخبار، ومفادها أنه حينما يعض كلب رجلاً فهذا خبر لا قيمة له، أما أن يعض رجل كلباً، فهذا خبر يستحق أن يكتب عنه).
أدركت مع مرور الزمن أن تلك الانتهاكات لم تكن خروجاً عن المألوف، حيث أن الدول حينما تعتقد أنها تتعرض لخطر يتهددها فإن الكثيرين منها يقومون بهدوء بتمزيق كتاب قواعد الأخلاق الذي يزعمون أنه موضع احترامهم. حينها سوف تُنزع القفازات، وعندها سوف تقوم بعض الحكومات بكل ما في وسعها من أجل التستر على جرائمها.
في عام 2001 كنت كبير مراسلي صحيفة ذي لندن تايمز. في الساعة الثانية من بعد ظهر الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) كنت أجلس داخل قاعة محكمة في مدينة نونتنغهام، في منطقة ميدلاند الإنجليزية، أنتظر بدء محاكمة.
كانت تلك فعلياً إعادة محاكمة: فقد كان المتهم قد أدين بقتل أم وابنتها البالغة من العمر ستة أعوام انهال عليهما بمطرقة بينما كانتا تسيران في طريق ريفي، وترك الإبنة الأخرى وعمرها تسعة أعوام تصارع الموت ظناً منه أنها قد لحقت بهما كذلك. أمرت محكمة الاستئناف بإعادة المحاكمة، فبدت تلك في حينه حكاية كبيرة تستحق الاهتمام.
بعد الثانية ظهراً بدقائق معدودة ـ بعد التاسعة صباحاً بقليل في نيويورك ـ ربت زميل من صحيفة ذي لندن إيفنينغ ستاندرد على كتفي قائلاً: “يودون من قسم الأخبار في صحيفتك بالتحدث معك. “تم الاتصال بذلك الصحفي على هاتفه النقال، الذي كان بالإمكان وضعه في حالة الصمت، فيهتز حينما تأتي مكالمة: وكان ذلك حينها يمثل إبداعاً.
أخبرني محرر أخبار في لندن بأن طائرتين ارتطمتا بمركز التجارة العالمي، وطلبوا مني التوجه إلى مطار هيثرو في أسرع وقت ممكن. هرعت إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه، أنهيت إقامتي وتوجهت سريعاً إلى موقف سيارات قريب وانطلقت.
على الطريق السريع اتصلت بصديق في نيويورك من هاتفي النقال، فأخبرني أن طائرة ثالثة ارتطمت لتوها في مبنى البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية).
قطعت المسافة من نوتنغهام إلى هيثرو، ما يقرب من مائة وثلاثين ميلاً، في أقل من تسعين دقيقة بقليل. كنت في بعض الأوقات أقود السيارة بسرعة لا تخلو من خطورة.
لم يخطر ببالي أن تكون جميع الرحلات متوقفة. وجدت نفسي محصوراً في هيثرو لمدة ـ ماذا كانت ـ يوم؟ يومين؟ (عرفت فيما بعد أن طائرة واحدة من طراز دي سي 10 قطعت الأطلسي في ذلك الوقت. كان هذا الاكتشاف، الذي جاء بعد بضعة سنين، بالغ الأهمية بالنسبة لعملي).
في نهاية المطاف استؤنفت الرحلات الجوية إلى تورونتو. في الوقت الذي تسنى لي فيه الصعود إلى واحدة منها بدأت أفكر بأنني أسافر في الاتجاه الخطأ، وأنني لو أردت أن أفهم ما الذي حدث والكتابة عما قد يحدث من بعد، فينبغي أن أسافر شرقاً، ربما بادئ ذي بدء إلى إسلام آباد.
لم تكن هناك رحلات جوية من تورونتو إلى نيويورك، ولا حتى قطارات. خرجت أمشي من محطة الاتحاد في قلب تلك المدينة الكندية، واقتربت من أول سيارة أجرة في الطابور وسألت السائق إن كان بإمكانه أخذي إلى نيويورك، في رحلة طولها ما يقرب من خمسمائة ميل.
دون أن يرف له جفن، قال لي نعم. اتفقنا على السعر، ثم قال لي إنها بحاجة لأن يذهب إلى البيت حتى يحضر جواز سفره. ما أن اقتربنا من منزله حتى بدا قلقاً نوعاً ما، فسألته إن كانت أموره على خير ما يرام، فقال مفسراً وضعه لي: “لم يحدث من قبل أن رأى أحد من الزبائن الركاب منزلي.” كان يعيش فيما يشبه القصر.
انطلقنا نسير طوال الليل، ثم اجتزنا الحدود عند نياغرا، وبحلول الفجر كنت في الموقع حيث كان البرجان.
بقدر ما كان مريعاً العدد الإجمالي للضحايا (تم أخيراً التأكيد على أن عدد من لقوا مصرعهم كان 2996) كان الكثيرون يفترضون أن العدد سيكون أكبر من ذلك بكثير: ولا أدل على ذلك من أن السفير البريطاني قال حينها بأنه يتوقع أن يكون عدد المتوفين من البريطانيين عدة آلاف.
إلا أن عدداً قليلاً من الناس كانوا في تلك الأيام الأولى يبكون على من فقدوا من أحبابهم، إذ لم يكونوا يعرفون أين كانوا: في كثير من الحالات، أشقاؤهم، أزواجهم، أبناؤهم وبناتهم، ظلوا مفقودين، وبدا كما لو أنهم بكل بساطة اختفوا من الوجود.
على كل جدار وكل نافذة في المدينة علقت صور للمفقودين من الأصدقاء والأقارب مرفقة بأرقام هواتف نقالة ومناشدات للحصول على أي معلومات. ومع ذلك سادت حالة من الحداد العام على فقدان أمريكا لما كانت تتمتع به من منعة. كان الناس مذعورين، عيونهم غائرة، وقد نال منهم الإنهاك. كانت المدينة في القلب مما يشبه الجائحة من وقع الصدمة، تعبق أجواؤها برائحة ثقيلة: كنت تشم في نيويورك ما يشبه رائحة الفرامل.
السفر شرقاً
بعد العمل في نيويورك لأسابيع قليلة توجهت شرقاً.
أولاً إلى موسكو، حيث حصلت على تأشيرة لدخول طاجكستان، ثم جنوباً إلى دوشانبه، عاصمة طاجكستان، التي ساعدني فيها طالب شاب ذكي في الحصول على إذن للانضمام إلى قافلة كانت على وشك الانطلاق إلى أفغانستان نظمها خصوم الطالبان، الجبهة الإسلامية الموحدة لإنقاذ أفغانستان ـ أو ما يسمى التحالف الشمالي.
تم الاتفاق ـ بمساعدة حفنة قليلة من الدولارات ـ على أن أجتاز نهر بانج مع القافلة، ثم أنطلق في طريقي منفرداً، وهكذا وجدت نفسي واقفاً في الطرف الجنوبي من النهر، في الظلام، حيث يوجد عدد قليل من المباني التي بالكاد تبين بما ينبعث منها من أنوار خافتة تشق ستار الظلمة الحالكة. كان ينتابني القلق ولكني كنت في نفس الوقت متحمساً.
كنت على ثقة بأنني سرعان ما سأجد من يعرض علي العمل معي، فهذا المكان من النوع الذي يتواجد فيه المترجمون والمدبرون والسائقون الذين ينتظرون فرصة عمل ويبحثون عن الصحفيين الذين يتسنى لهم دخول البلاد.
ما أن تسلقت إلى المعدية حتى اقترب مني شاب وسألني بلغة إنجليزية لا تشوبها شائبة إن كنت بحاجة إلى مترجم ومرشد. كان اسمه فريد، وسرعان ما اكتشفت أن فريد شخص ذكي ومرح وأريب، وأنني ما كان يمكنني القيام بعملي بدونه.
عملنا أنا وهو معاً لعدة أسابيع في شمال أفغانستان، في البداية انطلاقاً من “خواجة بهاء الدين” وهي البلدة الوعرة والمغبرة التي اغتالت فيها القاعدة قبل يومين اثنين من هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) أحمد شاه مسعود، الشهير بلقب أسد بانجشير. انضم إلينا لفترة من الزمن مصور ذي تايمز بيت نيكولاس، الذي تستخدم في هذا التقرير بعض الصور التي التقطها.
كان فريد يفاخر بأنه ينحدر من وادي بانجشير، الأرض التي لم يتمكن لا السوفييت ولا الطالبان من ترويضها.
سافرنا إلى طالوقان وقندوز، نعد التقارير حول القتال بين الطالبان والتحالف الشمالي.
في زمن ومكان حيث لا وجود لخطوط الهاتف الأرضية ولا الهواتف النقالة، حاول فريد التواصل مع عائلته في بانجشير من خلال تحميل سائقي الشاحنات رسائل شفهية يقومون بدورهم بتحميلها إلى سائقين آخرين، رجاء أن تجد طريقها في نهاية المطاف إلى قريته. بدت تلك طريقة فعالة في توصيل الأخبار والمعلومات.
لدي ذكريات حية كثيرة من تلك الأيام في أفغانستان: الطرق الممهدة التي تظهر الممرات الآمنة عبر حقول الألغام، الحمامات العامة والرجال المكفوفون الذين يغنون من أجل عشائهم، الجراح في المستشفى الميداني ـ الرجل الوحيد الذي رأيته في أفغانستان حليق الذقن في ذلك الوقت ـ يغلي أدواته الطبية في آنية من الفولاذ الذي لا يصدأ قبيل نشوب المعركة، والطريقة التي يملأ بها أزيز القذيفة القادمة الهواء من أمامي، والخندق الضحل الذي ألوذ به جالساً القرفصاء بألم شديد على ركبتي.
كان ذلك مكاناً في غاية الخطورة بالنسبة للصحفيين. كنت ذات يوم أدردش مع صحفي ألماني، اسمه فولكر هاندلويك، في مقهى على قارعة الطريق. وفي اليوم التالي قتل هو وصحفيان آخران، أطلقت عليهم النيران فيما يبدو وهم مسافرون على متن عربة مدرعة للتحالف الشمالي.
عادة ما نجم عن الانهيار المنتظم لحركة الطالبان عودة حالة الفوضى والخروج على القانون التي كانت الحركة قد قضت عليها بلا هوادة. فعندما ينسحب الطالبان من بلدة، تمر بضعة أيام يسود فيها السلام والهدوء، ثم يظهر اللصوص المسلحون وينتشرون ليلاً في الطرقات المظلمة.
بعد مرور عشرة أيام على وفاة فولكر، وبينما كنت على الجبهة الأمامية، قابلت مصوراً تلفزيونياً من السويد اسمه أولف سترومبيرغ. بدا لي رجلاً حكيماً ومهذباً.
بعد ليلة أو ليلتين من ذلك، وبينما كنت أسير في طالوقان، هددتني مجموعة صغيرة من الفتيان في الخامسة عشرة من العمر مسلحين ببنادق الكلاشنكوف. سارع الإمام الذي كنت برفقته ويتحدث الإنجليزية بطلاقة إلى إدخالي إلى مسجد بالجوار، وشرح لي أن الفتيان كانوا يريدون مني تسليمهم قبعتي الدافئة، وقال لي إنني كنت معرضاً لخطر إطلاق النار علي.
يبدو أن الفتيان فيما بعد توجهوا إلى منزل يقيم فيه أربعة صحفيين سويديين فسرقوا اثنين منهم تحت تهديد السلاح وقتلوا ثالثاً، وكان ذلك أولف سترومبيرغ.
إذا كان الخطر محدقاً بالصحفيين المتواجدين في أفغانستان آنذاك، فإن الخطر المحدق بالأفغان المدنيين كان أكبر بكثير. فطبقاً لإحدى الدراسات، بنهاية العام كان قد قتل ما بين ألف وألف وثلاثمائة بسبب القصف الجوي وحده.
عندما عدت إلى الجراح الحليق في غرفة الجراحة داخل الخيمة، كان يعالج جراحات أفراد عائلة أصيبوا بقذيفة سقطت على جانب الطريق أمامي. كان أحد أفراد العائلة مستلق يئن في السرير، وبدا كما لو كان قد تعرض لتوه لهجوم من أسد يتضور جوعاً.
كانت جثة فرد آخر ممددة على منضدة العمليات مغطاة ببطانية، وقد وقف إلى جانب المنضدة فتى في الثامنة أو التاسعة من عمره شارد الذهن، كانت يده ممتدة تحت البطانية تمسك بيد الرجل الميت.
في البداية لم يكن الطالبان سلطة بلا قوة. بل كانوا يملكون مدافع ومدرعات، ولكن وصول القوات الجوية للولايات المتحدة وبريطانيا بدل ميزان القوة بشكل دراماتيكي، وسرعان ما بدأ اختيار سلسلة متعاقبة من الأهداف السهلة.
أدركت بمساعدة فريد كيف اشتملت الحرب في أفغانستان تقليدياً على تفاوض ورشاوي ومقايضة بالإضافة إلى العنف، وصار بإمكاني رؤية كم من الوقت كان هؤلاء الفرقاء يقضون على الأرض وهم يتحدثون فيما بينهم عبر أجهزة اللاسلكي يبرمون الصفقات وفي نفس الوقت يخوضون المعارك ضد بعضهم البعض.
وذات مرة على الجبهة الأمامية بالقرب من قندز، شاهدت الطرفين وهما يتفقان عبر أجهزة اللاسلكي على صفقة لتبادل الأسرى مقابل جثث القتلى. كان الطالبان يريدون استعادة سجنائهم ـ وهم مقاتلون أسروا أثناء هجوم وقع مؤخراً على قرية مجاورة ـ بينما كان التحالف الشمالي يريد استعادة عدد من الجثث التي كانت ملقاة في أرض محايدة في واد يقع بين تلين أجردين يلفهما الغبار.
في النهاية تم الاتفاق على ثمن التبادل: يتم تسليم ثلاث جثث مقابل كل سجين على قيد الحياة.
عبر اللاسلكي، أبلغ قائد قوة الطالبان نظراءه في التحالف الشمالي بأن بإمكانه رؤية أجنبي يتواجد بين صفوفهم وطالب بضمان ألا تُشن هجمات من الجو أثناء عملية التبادل، فقيل له إن الرجل الذي يراه عبر المنظار المكبر صحفي من لندن وأنه لا يملك أي صلاحيات فيما يتعلق بالقصف الجوي.
دفع التحالف نحو الأمام بشاحنة روسية قديمة زرقاء اللون على متنها أربعة سجناء مكومين في الخلف أذرعهم مقيدة خلف ظهورهم.
بعد برهة قصيرة عادت الشاحنة، فقفزنا لنعد الجثث التي في الخلف، فكان العدد تسعة. لم أحتج لفريد حتى يترجم لي العبارات الغاضبة التي كنت أسمعها من حولي: “لقد سرقونا.”
لم يبق أحد ليقاتل
بنهاية العام، ساء القوات الخاصة البريطانية المكلفة بالتواجد في جبال أسامايي المطلة على كابول أن تسبقهم إلى الموقع وسائل الإعلام العالمية. أحدهم، وكان صديقاً لي، فسر لي فيما بعد السبب وراء الشعور بالخيبة: “ما كان من الممكن أن يكون الأمر بتلك الخطورة إذا تمكنت وسائل الإعلام من الوصول إلى هناك قبلنا.”
عندما دخلت طلائع القوات البريطانية إلى المدينة في وقت متأخر من الليل، كان القتال الوحيد الذي صادفوه هو عراك نشب في الشارع بين مصورين اثنين يعملان لصالح صحف بريطانية يتنافسان على المكان الأفضل لالتقاط صورة للوصول العظيم.
بحلول يناير / كانون الثاني بدا كما لو أن كهوف طورا بورا أخليت تماماً من آخر مقاتلي الطالبان والقاعدة. فيما بعد، وأثناء التجول في الجزء الشرقي من البلاد، اكتشفت قوات البحرية الملكية البريطانية أنه لم يبق أحد ليقاتل.
كنت في كابول، حيث بدا أن إحساساً بالارتياح عم المدينة بسبب مغادرة الطالبان. ورغم النوم على الأرض إلا أنني كنت مستمتعاً بالراحة التي وفرها لي البيت المستأجر وقد هيمن الهدوء المسترخي على أجواء المدينة.
كان مترجمي في العاصمة الأفغانية هو ابن رجل كان ضابطاً كبيراً في “خاد”، جهاز البوليس السري في أيام الاحتلال السوفييتي: رجل صاحب حظوة ومعارف.
في ذلك الوقت كانت تنظم احتفالات في السفارة البريطانية التي افتتحت حديثاً، وتعقد مباريات كرة قدم في ملعب غازي، نفس المكان الذي كان الطالبان ذات حين ينفذون عمليات الإعدام وبتر الأعضاء، وكان لاعبو البوزكاشي في كابول يتنافسون مع فرق قادمة من وادي بانجشير.
لم أر في حياتي لعبة كهذه، مربكة، عنيفة ومثيرة للغاية.
مع بدء الضربات الجوية للقوات الأمريكية والبريطانية، اعترف بوش بالحاجة إلى إقامة حكومة قوية في كابول، وبدأت التعهدات بتقديم المساعدات تنهال من قبل الحكومات حول العالم. ولكن لم تف جميعها بما تعهدت به.
في مطلع عام 2002، انضم البيت الأبيض إلى الفريق الداعم لفكرة بناء الدولة. بالرغم من مزاعمه الأخيرة التي تناقض ذلك إلا أن أحد أكثر المتحمسين منذ وقت مبكر لهذا المشروع كان جو بايدن الذي كان حينها عضواً في مجلس الشيوخ.
أما خارج كابول فاستمرت الفوضى والجرائم الخطيرة، ولأكثر من عقدين من الزمن استمرت الحرب بلا توقف وكذلك الصراع بمختلف تعقيداته وجوانبه الاجتماعية والسياسية والعرقية، والذي ما فتئت تغذيه القوى الكبرى والأطراف الإقليمية التي لا تعرف الرحمة في الجوار، حتى افترض كثير من سكان كابول أن الاقتتال سيندلع ثانية لا محالة قبل مرور وقت طويل من الزمن.
كان البعض يتحدث عن هجوم الربيع القادم، فكنت أسألهم وما الذي يجعلكم تعتقدون بأن ثمة هجوماً قادماً في الربيع، فيقولون: “لأن هذه أفغانستان. لا مفر من حدوث هجوم في الربيع”.
كان لدي الكثير لأتعلمه، ليس فقط فيما يتعلق بحقائق الحياة والموت القديمة في أفغانستان، ولكن أيضاً بشأن السمة الحقيقية للحرب الوليدة على الإرهاب.
وذات يوم في ذلك الشتاء في كابول توجهت إلى مكتب إحدى كبريات المنظمات الدولية غير الحكومية الذي افتتح حديثاً. وهناك أخبرني مسؤول كبير بكل هدوء أن الأمريكان بدأوا في تعذيب السجناء في مركز اعتقال أقيم في قندهار.
صدمني ذلك. قلت من المؤكد أن الأمريكان ما كانوا لينحطوا إلى هذا المستوى فيمارسوا التعذيب، بغض النظر عن جسامة الجرائم التي ارتكبت في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). ثم سألته كيف عرف عن ذلك.
فبين لي أن الصليب الأحمر دخلوا إلى المعتقل وأجروا مقابلات مع السجناء، وما ذكر المعتقلون عن الانتهاكات التي تمارس ضدهم ويعانون منها يعضد بعضه بعضاً. كان هناك منوال معين. ولكن لما كان ذلك زعماً غير عادي فقد اعتقدت بأنني بحاجة إلى مصدر ثان. بحثت بإلحاح عن ذلك المصدر الثاني ولكنني لم أعثر عليه.
لو أنني كنت أعلم حينذاك ما أعلمه الآن لأدركت أن المصدر الثاني كان موجوداً يرمقني بنظره لأيام. في الحادي عشر من يناير / كانون الثاني، عندما كانت أول مجموعة من السجناء بما كانوا يرتدونه من ملابس القفز الموحدة تجر عبر أراضي معسكر أشعة إكس في غوانتنامو بيه، كان الذي صورهم هو مصور البحرية الأمريكية شين ماكوي.
ما لبثت خمس من الصور التي التقطها ماكوي أن أتيحت لوكالة الأسوشيتد بريس الإخبارية.
بينت تلك الصور أن السجناء كانوا يرتدون أقنعة على أفواههم، ونظارات سوداء وواقيات آذان وقفازات كثيفة سوداء اللون.
وثق الجيش الأمريكي بنفسه استخدامه للتعذيب، ثم وزع الدليل في كل أرجاء المعمورة. ولكني مثل معظم بقية العالم، لم أكن أعرف ما يكفي عن تلك الأمور بما يجعلني أفهم مغزى ما كنت أشاهده. لم أكن في ذلك الوقت أدرك أنني أرى صور رجال يتعرضون للتعذيب.
في شهر مارس / آذار بدأ شهر العسل يقترب من نهايته. اندلع القتال في أفغانستان مجدداً، تماماً كما خمن الناس في كابول. دارت هناك اشتباكات بين القوات الأمريكية من جهة وقوات الطالبان والقاعدة من جهة أخرى بالقرب من غارديز في جنوب شرق البلاد، على بعد أميال قليلة من الحدود مع باكستان.
ولكن بدأت أنظار الجميع آنذاك تتجه إلى مكان آخر، فقد بدت الإطاحة بالطالبان يسيرة، وبالمجمل مثلت رداً غير كاف على هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) المريعة. بوش وطوني بلير والبنتاغون ووسائل الإعلام العالمية: كنا جميعاً نتوجه بأنظارنا نحو العراق. كنا جميعاً نستعد للحملة القادمة من الحروب التي لا تنتهي.