أسامة جاويش يكتب:
«الشعب ركب يا باشا»، عبارة شهيرة من أعظم وأصدق العبارات التي صدرت عن الشرطة المصرية مساء جمعة الغضب، في الثامن والعشرين من يناير الثورة عام 2011.
عبر جهاز اللاسلكي، يتابع أتباع اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية المصري في عهد المخلوع مبارك تطورات الأحداث الدرامية على كوبري قصر النيل وفي محيط ميدان التحرير، فالمواجهة اشتدت على مدار ساعات دون أي تقدم يذكر لقوات الداخلية أمام موج هائل من البشر الغاضبين العازمين على دخول التحرير مهما كلفهم ذلك من ثمن. يصرخ أحد اللواءات: إيه الوضع عندك؟ فيرد ضابط صغير بصوت مرتعش قائلا: يا باشا الشعب ركب، ليكون ذلك إعلانا لانتصار الشعب المصري على وزارة الداخلية المصرية بعد سنوات من القمع والتعذيب والبطش الشديد.
جمعة الغضب، والتي صادفت نفس اليوم في هذا العام، تعيد للأذهان مشاهد صمود أسطوري من الشعب المصري وثوار يناير عندما أرادوا التغيير، فلم تمنعهم قنابل الغاز أو طلقات القناصة وصوت الرصاص المستمر، فقد كانت الوجهة واضحة والبوصلة حاضرة: اليوم وإلا فلا. وقد كان لنا ولهم ولمصر ما أردناـ فكانت نقطة التحول الكبرى لثورة 25 يناير في مثل هذا اليوم منذ 11 عاما.
يحاول النظام العسكري في مصر تشويه هذا اليوم أكثر من أي يوم آخر في الثورة، فهو من علامات انكسار السلطة الأمنية أمام الشعب، بما فيه من صور لضباط وعربات الشرطة وهم يفرون أمام المتظاهرين ويهربون في خوف شديد. عصيب هذا اليوم على السيسي ورجاله وحاشيته بما يحتويه من صور لملابس داخلية لضباط الشرطة وهي معلقة على أسوار عدد من أقسام الشرطة صباح التاسع والعشرين من ك يناير 2011، وعلى رأسها قسم الأزبكية الشهير بجرائمه البشعة ضد المصريين.
مع كل محاولة بائسة من النظام ولجانه الالكترونية للتدوين عن الفوضى والتعدي على أقسام الشرطة، يفاجئهم المصريون بالتدوين بعبارة واحدة: الشعب ركب يا باشا، مع كثير من مشاهد انتصار الشعب ودخوله ميدان التحرير.
يتعامل عبد الفتاح السيسي مع ثورة الخامس والعشرين من يناير في كل ذكرى لها بشكل يحمل تناقضا كبيرا، فالرجل الذي وصف ثورة يناير بأنها كانت إعلان شهادة وفاة الدولة المصرية، وربط بينها وبين أزمة سد النهضة واتهمها بأنها كانت مؤامرة ضد الجيش والشرطة وشبهها بالعلاج الخاطئ للتشخيص الخاطئ، هو نفسه السيسي الذي وصفها بالنقطة المضيئة في تاريخ مصر وبأن من قاموا بها هم شباب وطني مخلص، وبأنها كانت خطوة نحو الازدهار والعزة والاستقلال.
فماذا يخفي السيسي وراء هذا التناقض الكبير من ثورة يناير؟ وكيف يرى السيسي ثورة المصريين ضد قائده السابق المخلوع حسني مبارك؟ وهل تعد ثورة يناير خطرا حقيقيا وتهديدا لرئاسة السيسي ومكانه على رأس السلطة، أم أنها لا تعدو كونها غضبة شعبية استطاع السيسي أن يقضي عليها ويحبس رموزها ويقتل شبابها؟ وهل لا زالت ثورة يناير أملا للشعب المصري في تغيير قادم، أم أنها تحولت لمجرد ذكرى انتصار لحظي لم يدم طويلا؟
كلها أسئلة مشرووعة نطرحها في كل ذكرى للثورة ونبحث لها عن إجابات منطقية، وربما كان التفسير المنطقي لهذا التناقض هو أن البعض يرى أن للثورة أيادي بيضاء على السيسي يتذكرها أحيانا فيمدحها. فلولا يناير لظل السيسي حبيس منصبه في إدارة المخابرات الحربية، ولربما أحالوه للتقاعد مبكرا ومنحوه وظيفة إدارية في إحدى المحافظات كرجل عسكري متقاعد.
ويعتبر البعض أن الثورة كانت سببا رئيسيا في وصوله للسلطة عبر انقلاب عسكري، ولكن وبكل تأكيد لا يحب السيسي أن يتذكر مشاهد جمعة الغضب وما جرى فيها، ويكره تقبل فكرة انتصار الشعب على السلطة. ولعل هذا هو أحد أهم أسباب حديثه الدائم عن الفوضى التي صاحبت يناير، وعن المصير الأسود للبلاد إذا ما استمرت الثورة من وجهة نظره.
لم تكن يناير مؤامرة ولم تكن جمعة الغضب مثالا للفوضى، وإنما كانت حالة تعبير عن غضب شعبي جارف انفجر فجأة؛ في وجه السلطة الغاشمة التي استخدمت ضده كل وسائل القمع والتنكيل والبطش على مدار عقود حكم مبارك.
الشعب ركب يا باشا هي الحقيقة التي يخشاها السيسي، وهي الأمل الذي يحيا به أبناء يناير ومن ورائهم الشعب المصري.. عله يحدث قريبا.