قالت سمية الغنوشي ابنة رئيس حركة النهضة التونسية المسجون في بلاده راشد الغنوشي، إن تونس التي كان ينظر إليها على أنها آخر أمل ديمقراطي في العالم العربي، باتت ضمن المصير المظلم لشقيقاتها مصر واليمن وليبيا وسوريا.
وأوضحت في مقال بصحيفة الجارديان، البريطانية ترجمته “عربي21” أن ما كان يخشاه والدها راشد الغنوشي، تحقق بالفعل، ويشهد على ذلك ما تعرض له من سجن رغم محاولته إبقاء قاطرة التغيير على سكتها.
نص المقال:
عشية القمة العربية التي انعقدت في جدة في وقت سابق من هذا الشهر، وصف الرئيس التونسي قيس سعيد لقاءه برئيس سوريا بشار الأسد بالتاريخي، انتشرت على نطاق واسع في المنطقة الصورة التي التقطت في القمة لقيس سعيد، واقفا بمحاذاة كل من الأسد وعبد الفتاح السيسي، في إشارة إلى عودة تونس إلى النادي القديم للطغاة العرب.
رغم صراعاتهم ونزاعاتهم المهلكة، ما خفي منها وما ظهر، يتوحد الزعماء العرب اليوم حول غاية مقدسة واحدة: إجهاض تطلعات شعوبهم في التغيير، صحيح أن معمر القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي لم يعودوا موجودين جسدا، إلا أن أرواحهم ما زالت تعشعش في جيل جديد من الطغاة.
ولكن دعونا نركز على تونس، التي كان ينظر إليها ذات مرة على أنها آخر أمل ديمقراطي في العالم العربي، منذ حقبة الربيع العربي، التي شهدت في تونس الإطاحة ببن علي، والبلد يقاوم لتفادي المصير المظلم الذي آلت إليه شقيقاته مصر واليمن وليبيا وسوريا، وقد نجح في ذلك، وأبقى قاطرة التغيير على السكة سنوات متتالية، لكن ما كان يخشاه تحقق للأسف، كما يشهد بذلك ما تعرض له والدي، راشد الغنوشي، البالغ من العمر واحداً وثمانين عاماً.
في شهر أبريل، وبينما كانت العائلة تستعد للإفطار في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، اعتُقل والدي، زعيم الحزب الإسلامي المعتدل، النهضة، والرئيس المنتخب للبرلمان التونسي المنحل. داهم منزلنا ما يقرب من مائة من عناصر الأمن، اقتيد والدي إلى أحد معسكرات الجيش، حيث أمضى ثمانية وأربعين ساعة، دون السماح له بملاقاة محاميه، قبل أن توجه له تهمة “التآمر على أمن الدولة”، تهمة سخيفة قد تصل عقوبتها للإعدام.
كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ في السنوات التي أعقبت الثورة، تمكنت تونس من تبني دستور تقدمي يحظى بالإجماع، ويضع الأسس لحكم محلي متطور، وكانت على وشك إكمال تحولها الديمقراطي، وعلى أهبة الاستعداد لمواجهة تحدياتها الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، وذلك بعد أن كرست قدراً كبيراً من طاقتها للبناء السياسي.
كل ذلك قُوّض من الداخل على يد رجل يدعى قيس سعيد: أستاذ جامعي مساعد مغمور، فاز في عام 2019 في انتخابات الرئاسة، مستخدماً خطابا ادعى مناصرة الثورة والمحافظة، ولكن بمجرد أن وضع قدمه في قصر قرطاج الرئاسي، ركل السلم الديمقراطي الذي تسلق عبره إلى السلطة ومضى يهشمه.
أمر في عام 2021 بفرض حصار على البرلمان بالعربات العسكرية، وبدأ يدير البلاد بمراسيم رئاسية، وذلك قبل أن يحل المجلس التشريعي في عام 2022. ثم يطيح بالدستور، ويستبدله بدستور كتبه بنفسه، وأجازه عبر استفتاء لم يشارك فيه سوى 30 بالمائة من الناخبين، مانحاً نفسه بذلك سلطات هائلة على أبدان وأرواح رعاياه.
بعد انقلابه، فتح قيس سعيد النار على هدفين: القضاة والأجهزة الأمنية، فحل المجلس الأعلى للقضاء وعين مجلساً خاصاً به، وفصل سبعة وخمسين من القضاة بموجب مرسوم رئاسي واحد متهماً إياهم بالفساد.
كما أعاد قيس سعيد المنظومة الأمنية إلى ما كانت عليه في زمن بن علي، فألغى الإصلاحات التي استحدثت بعد الثورة من أجل الحد من توحش الشرطة، وهكذا مهد السبيل للقمع الذي يمارسه حالياً ضد المعارضين، لا يقتصر من يستهدفهم على الزعماء السياسيين من جميع التوجهات، بل تعداهم ليشمل نشطاء المجتمع المدني والصحفيين والمحامين وحتى الناس العاديين الذين يتجرؤون على كتابة بوستات ناقدة عبر صفحات الفيسبوك.
لا يتورع سعيد عن وصف خصومه بـ”الخلايا السرطانية” وشتى الشتائم، وقائمة الأعداء المتخيلين تطول يوماً بعد يوم، من “عملاء القوى الأجنبية” إلى المستضعفين من العمال الأفارقة الوافدين، الذين يتهمهم بأنهم جزء من مؤامرة تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية للبلد، مردداً نظرية “الاستبدال الكبير” لليمين المتطرف في أوروبا.
هكذا تحولت تونس من ديمقراطية وليدة إلى بلد دكتاتوري مكتمل الأركان، باتت مزيجاً من الإخفاقات، سلبت من أهلها الحريات التي ناضلوا في سبيل اكتسابها، وأغرقوا في أزمة اقتصادية خانقة. كل يوم، يقف الناس في طوابير طويلة، أملا في الحصول على الخبز أو بعض السكر أو الدقيق أو الزيت.
يحدث كل ذلك على مرأى ومسمع من أوروبا، التي تشيح عواصمها بوجهها بعيداً، مقتصرة على بعض التصريحات المعبرة عن القلق، والتي يسخر منها طاغية تونس علانية فيرد: “وأنا أيضاً قلق لقلقكم”، وبينما كانت الدبابات تحاصر البرلمان وتسحق الديمقراطية التونسية الوليدة، لم تصف هذه البلدان ما يجري بأنه انقلاب حتى.
اليوم، يجد والدي نفسه وراء القضبان، وهو الذي كرس حياته لإثبات أن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام، هنا، الرسالة الموجهة إلى شعوب المنطقة صارخة جلية: أن الديمقراطية ليست لكم، وكل من يرى غير ذلك مثالي ساذج. ولكن إن لم يكن التغيير عبر الوسائل السلمية متاحا، فما السبيل للخروج من هذا المستنقع العربي؟