في كتابه "الإسلام وأوربا .. تعايش أم مجابهة" كتب مؤلفه السويدي "إنجمار كارلسون" يقول: "في نظام سياسي قائمٌ على القانون الإلهي لا يمكن حدوث تحولات أيديولوجية كبيرة أو تبني أنظمة بديلة … بناء على ذلك يستحيل تصور قيام أحزاب سياسية إذ لا محل لهذه في دولة يحكمها "الأصوليون"؛ لأنه لا يجوز السماح بوجود أي حزب آخر سوى حزب المؤمنين .. ولكن "الأصوليين" شجعوا تأسيس مجالس منتخبة وسمحوا بها؛ إذ رأوا فيها أدوات لتجسيد معنى الشورى التي ورد ذكرها في القرآن والتي نصَّت على ضرورة قيام الحكام بمشاورة المحكومين".
هذا النص المهم الذي يختزل بصورة جيدة حقيقة التحول الفكري للإسلاميين – بمفهوم الإسلامية السياسية، وهو ما يناقض الفريق العلماني – من العزوف عن الدخول في العملية السياسية الديمقراطية إلى الفاعلية ومحاولة السيطرة لا مجرد التأثير فقط ينطبق على أغلب القوى السياسية الإسلامية الفاعلة في مصر حاليًا.
بل إنه كان من المشكوك فيه – أي هذا النص – إذا حاولنا جعله أداة تفسيرية لفهم النشاط السياسي للإسلاميين كلهم، خصوصًا على الفريق السلفي منهم مثل الدعوة السلفية السكندرية وما انبثق عنها حزب النور السلفي والوطن وما شابه، وقد كان من المرجح طبقًا لأطروحات هذه المدرسة قبل الثورة مثلاً أن تسعى لجعل المحافل العلمية كإنشاء جامعات خاصة بها أولوية قصوى في مناخ ما بعد الثورة، لكن الذي حدث هو هجوم كاسح، وانطلاق لم يكن متوقعًا للخوض في غمار السياسة وهو ما ترتّب عليه بعض الآثار السلبية وأكبرها عدم القدرة على مواجهة شراسة الحكم العسكري الذي تنامى وكاد أن يظل حاكمًا أوحدًا للمصريين!
على أية حال، عامان ونصف والإسلاميون في مرحلة التيه؛ صحيح أن الثورة والدولة مفاهيم بدت أكبر من فهم الإسلاميين لها؛ وكيفية التعامل معها، إذ حتى الآن لا نكاد نرى نجاحًا ملموسًا في أي أهدافهما، سواء على صعيد مفهوم "الحكم الرشيد" أو "الثورة الناجحة"!
هذا التيه والتخبط بل والتناحر، بل والغرق في مستنقع الدولة القديمة التي يحرسها الجيش والقضاء ولاحقًا الإعلام طرح سؤالاً مهمًا في الفترة الأخيرة على لسان فريق لا بأس من شباب الإسلاميين: هل سبيل الحزبية هو السبيل المستقيم للوصول إلى الدولة الإسلامية أو على أقل الدولة المنشودة بمعايير الدولة في العالم المتقدم؟!
ثمة فريقان من الإسلاميين في مصر تحركهما دوافع شتى كل منهما يسير عكس الآخر:
الأول: وهو الفريق التقليدي الذي تحدثنا عنه الآن ويغلب عليه الجيل المؤسس للحركة الإسلامية وجيل الوسط والأنصار من الشباب المؤمن بهذه القيادات الإسلامية.
الثاني: وهو الجيل الثالث أكثرهم تحررية وثورية يرى أن طريق الحزبية طريق فاشلٌ، بمعنى آخر "زوبعة في فنجان" طالما يتجاهل تحديات أصيلة، وحواجز عالية أمام أهدافه المنشودة، وهي تحديات داخلية أولها عدم انصياع الدولة لهم وضبابية قدرتهم على التطهير وإعادة الهيكلة. وثانيها عدم قدرتهم على مواجهة التحدي الخارجي، وهو غولٌ قوي له شبكاته المخابراتية والاقتصادية التي يعجز هؤلاء في ظل تناحرهم وتشتتهم على مجابهتها. ومن اللافت أن هذا الجيل المؤمن بفشل العلمية الديمقراطية في تنامي مستمر.
لقد انحسر الوضع السياسي في مصر الآن على ثلاث قوى يسود علائقها التوتر في بعض الجوانب والتناحر في جوانب أخرى:
1- الجيش: الذي ضمن وضعًا مستقلاً في الدستور، يجعله رقيبًا على الدولة وسياساتها السيادية الكبرى وحاميًا لها.
2- الإسلاميون وهم مشتتون بين إخوان "تائهين" غير قادرين على ضبط إيقاع الدولة من أمن وقضاء وإعلام فضلا عن الخدمات، وسلفيين ممزقين لا يتحدون إلا إذا اقتربت السيوف من أعناقهم!
3- القوى العلمانية الفلولية بقيادة الثلاثي: البرادعي صباحي وعمرو موسى وقد أنشأوا منذ أواخر نوفمبر الماضي عقب الإعلان الدستوري المكمل ما يُسمى بجبهة الإنقاذ الوطني التي أثبتت قدرتها حتى الآن وبكافة السبل السياسية وغير السياسية على توتير العلاقات بين الفريقين الأولين والشارع، وعدم ترك الساحة لهما بأي حال من الأحوال، تساندهم آلة إعلامية جبارة غير مسبوقة.
في إطار هذه الثلاثية، تتكشف لنا حقيقة أراد البعض أن يهيل التراب عليها مرارًا وهي أن الرئيس مرسي استلم السلطة في 30 يونيو الماضي استلامًا كاملاً، وتلك أضحوكة كبرى يبددها تحدي القضاء والإعلام وبعض المؤسسات أو الجهات الأمنية له؛ ما يجعله مكبلاً في معظم الأوقات!
إن مصر وفي ضوء انقسام الإسلاميين على أنفسهم، وبعيدًا عن التحدي الإقليمي والدولي ذي اليد الطولى في الداخل، لابد لها من نظام قوي على رأسه رئيس قوي حازم، ولا سبيل أمام مرسي والإخوان من خلفه إلا بسط السيطرة على هذه الدولة؛ إذ لا يُعقل أن يخرج كل أركان النظام السابق من سجونهم ملوحين بعلامات النصر بمن فيهم حسني مبارك الذي ظهر باسمًا سعيدًا مطمئنًا لأمر ما في بداية إعادة محاكمته التي استشعر فيها قاضي براءة متهمي موقعة الجمل الحرج، ولا أدري أي حرج أصاب الرجل!
إن تنامي السخط بين الإسلاميين أنفسهم حزبيين وغير حزبيين على سياسة الرئيس مرسي والإخوان التوافقية المهادنة بل الضعيفة إن شئنا الدقة أمام أصنام النظام القديم التي لا يقدر أحد على المساس بها أمر لافت يستوجب من عقلائهم التنبّه والحيطة وسرعة إصدار تشريعات أو قرارات من شأنها حماية السهم الأخير من الثورة وهو "هامش الحرية" ودعك من حقوق الشهداء، ومحاسبة المجرمين، والعدالة الاجتماعية، والأمن، والكرامة وتطهير مؤسسات الدولة وكلها شعارات براقة ذهبت مع الريح والتوافق والتدريج.
إن استنساخ الإخوان للتجربة التركية أو هكذا يظنون بمحاولة تحسين الأوضاع الخدمية من خلال القروض والالتجاء شرقًا وغربًا مع تجاهل تزييف الوعي الشعبي وشحنه بالعداء للإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان أنفسهم من خلال الإعلام المضاد وتراخي مؤسسات الدولة والخطط المدبرة لإعاقة أي نجاح وطمسه – ولنا في زيارة مرسي الأخيرة للسودان وما أعقبها في ذات اليوم من حديث وإشاعات عن بيع حلايب وشلاتين للسودان – ضرب من الوهم والخدر والغفلة الشديدة، وإلا فالسؤال الأشد بساطة: ما هي الدولة التي شقت طريقها في التنمية وهي ممزقة بين قوى متفاوتة، وإعلام مضلل، وقضاء متربّص؟!!
لا يمكن أن يصدق عاقل أن بعض شباب الإسلاميين يُعتقلون ويلفق لهم قضايا والبلطجية يفرج عنهم باعتراف وزارة الداخلية التي لامت بعض أعضاء النيابة العامة علنا بسبب ذلك، لا يمكن أن يصدق عاقل أن هؤلاء الذين ذاقوا الذل والهوان والسجون والتعذيب وجرائم أمن الدولة في النظام السابق باتوا في ظل الرئيس "الإسلامي" ملاحقين متربّص بهم، هذا ضرب من الجنون والغفلة وشق للتيار الإسلامي عاقبته أشد وأنكى على الإخوان قبل غيرهم.
أمام الرئيس والإخوان إن أرادوا تطهير مصر كشف الحقائق على الملأ، وتجلية مكامن الضعف، والمصالحة مع بقية الإسلاميين، وتبيان الأسباب الحقيقية التي جعلت مرسي حتى الآن ورغم إعلانه من قبل عن علمه بمكامن المجرمين غير قادر على الإيقاع بهم، وشحن الجماهير لحماية الرئيس في اتخاذ ما يلزم من قرارات للتطهير في القضاء والإعلام والمؤسسات الأمنية، الآن ليس الحديث عن الثورة أو بقايا الثورة إنما الحديث عن الوجود من عدمه، عن طريقة مواجهة توحش النظام القديم ومن أعطوه قبلة الحياة من جديد وطعنوا الثورة في مقتل من أناس طالما سموا أنفسهم ثوريين أو قضاة شامخين أو إعلاميين شرفاء!