لم يكن يتخيل الروائي أحمد خالد توفيق أن ما حكاه في روايته الشهيرة "يوتيوبيا " من انقسام المجتمع المصري في عام 2020 إلى طبقتين واحدة تعاني الثراء الفاحش في مدينة مغلقة عليها في الساحل الشمالي والأخرى تحت خط الفقر تأكل الميتة، إن هذا سيحدث بالفعل في الواقع القريب، و مساكن الإسكان الصناعي بالإسكندرية خير شاهد على هذا و دليل .
وعندما دخلنا إليها وجدنا القمامة في كل مكان تسبح في مياه المجاري الطافحة في كل شوارعها و تلك الفئران الصغيرة التي تختبئ منا في خجل مما تفعله هنا، و لم يغب عن ناظرنا أيضا المخابئ الموجودة تحت الأرض والتي اكتشفنا فيما بعد أن الأهالي يتخذونها بيوتا لهم و ما إن صرنا نتجول في المكان حتى تلقفنا أهله بقلوب متلهفة و كأننا طوق النجاة بالنسبة لهم.
مخابئ تحت الأرض
وكالغريق الذي يتعلق بقشة يقول احد الأهالي إن هذه المساكن في منطقة منيا البصل و"ذى ما حضرتك شايف الزبالة بتقعد من بالشهور محدش بيشيلها إحنا مبنشوفش النظافة إلا ساعة الانتخابات لما يجوا يلفوا و يقولوا احنا هنعملكوا و نشلكوا و طبعا لما الانتخابات بتخلص مبنشوفش" ، مضيفا بمرارة إن هناك مخابئ تحت الأرض مكونة من غرف و كل غرفة يعيش فيها أسرة مكونة من سبع أو ثماني أفراد .
ويشير أن "هذه المخابئ أقيمت أيام الحرب و لكن مع زيادة أزمة الإسكان وعدم وجود شقق سكن الناس هذه المخابئ وسط الأمراض و الكلاب و القطط الضالة .
فيما يقول مواطن أخر "إن جاز التعبير وإطلاق عليه لفظ مواطن " بصوت أشبه بالصراخ "احنا مش عارفين نعيش معايا اربع عيال كل شوية عيل تعبان مش عارفين نعيش"
ولم نكن نصدق في بادئ الأمر إن هناك أي شخص يمكن أن يتخذ من المخابئ التي لا ترى الشمس ولا الحياة من الأساس بيتا له ، فأخذنا الأهالي إلى هذه المخابئ لنرى بأعيننا المأساة فهبطنا معهم تحت الأرض و كانت المفاجأة بالنسبة لنا عندما وجدنا الأمر حقيقي فوجدنا مياه الصرف الصحي تتساقط داخل الغرف من خلال أسقفها المشروخة و الملابس المتهرئة منشورة تحت الأرض على حبل غسيل مثبت على إحدى الحوائط بالمسامير و الأغرب إننا لم نجد ابسط الحاجات الإنسانية، عفوا لم نجد حمامات في هذه الغرف فللأسف الأهالي يقضون حاجتهم في الخلاء !
شرف البنات
ولكن مشكلة "الحمامات" اكبر بكثير مما توقعنا فتقول إحدى السيدات " محدش يرضى بالعيشة اللي عيشينها المياه بتنزل من الحيطان لو روحنا الحمام ممكن البلطجية ينطوا علينا و مية و مجاري" ، وتضيف أخرى "يعني يرضيك ندخل الحمام البلطجية يجوا يصورونا" .
أحد الاسقف المشروخة
فهم للأسف محرومون من ابسط الحاجات الإنسانية "دخول الحمام "، فتلعثمت الكلمات في حلقنا حينما خاطبت إحدى الفتيات في المسئولين و المواطنين شرفهم و نخوتهم قائلة" يرضيكم البلطجية نجي نستحم يصورونا و هم بياخدوا حقن المخدرات الواحدة تحافظ على شرفها ازاى وسط ده احنا كل اللى عايزينه اوضة بحمامها" .
فالتقطت الحديث منها فتاة أخرى قائلة "عاوزين مكان تاني نعرفو نحافظ فيه على نفسنا و على بنتاتنا"، فيما وجدنا سيدة أخرى في التسعين من عمرها لا تستطيع الذهاب الى المكان الذي يطلقون عليه لفظة "حمام" فتقضى حاجتها في "جردل " .
وارهبنا منظر العجائز اللائي يسكن هذه المخابئ منذ عشرون عاما فاحتلت أجسادهن الأمراض المزمنة و تجاعيد وجههن الذي يملئ فراغاتها الحزن العميق، فهن لا يجدن مكان لقضاء الحاجة أو الرعاية الصحية بل تتساقط عليهم مياه الصرف ليل نهار و بالتأكيد للحياة تحت الأرض أثارها.
وخرجنا من هذه المنطقة الحزينة و أهلها يحملوننا أمانة نقل ألامهم و أوجاعهم إلى المسئولين لعلهم ينظرون إليهم بعين الرحمة و الرأفة و يحسبونهم في عداد المواطنين فيحققون أحلامهم التي تتلخص في "غرفة بحمام" فلم نجد ما نقوله لهم و عندها تذكرنا رواية "يوتيوبيا " التي كنا نقرأها في استنكار كيف لمصر أن تنقسم لطبقتين احدهما غني و يمتلك كل وسائل الحياة والأخرى محرومة منها و لم نكن نتوقع أن هذا اليوم ستأتي بوادره بهذه السرعة، فهل تحول الدولة دون تحقيق هذا اليوم المشئوم ؟