قرأت أنّ فلاحاً في صعيد مصر "قرية الأشراف بمحافظة قنا" ألقي القبض عليه بتهمة الإساءة إلى بعض رموز القوات المسلحة.
لم تشر الصحف إلى اسم الفلاح ولا كيف كانت الإساءة التي أصبحت موضوعا للتعليق والتندر على المواقع الإلكترونية.
لكن من الواضح أن الرجل كان معارضا وأنه لم يلجأ إلى فعل، وإنما عبر عن رأيه بصراحة لم تحتملها الأجهزة الأمنية في الأجواء الراهنة فقررت احتجازه سواء لتأديبه وشد أذنه كما يقال، أو تمهيدا لتقديمه إلى محاكمة عسكرية بتهمة الإضرار بالقوات المسلحة.
وإذ أتمنى أن يقف الإجراء عند حدود لفت النظر، إلا أن القضية استدعت عندي شريطا طويلا من الحالات القريبة والمماثلة التي سبق أن تعرض لها الناقدون والمعارضون وكيف عبروا عن آرائهم، سواء بالمواجهة الصريحة، كما فعل صاحبنا الصعيدي، أو بالالتفاف والغمز غير المباشر الذي يوصل الرسالة ولا يكشف الغرض، لتجنب الاصطدام بالسلطة أو الوقوع تحت طائلة القانون.
سجلات المحاكم حافلة بذلك النوع من القضايا.
ففي الخمسينيات، في آخر العهد الملكي، كتب محمود السعدني، أحد شيوخ الساخرين في مصر، مقالة انتقد فيها بشدة وزير الدفاع آنذاك الفريق محمد حيدر باشا،
وحين أراد أن يهون من شأنه ويزدري به ذكر أن الخبراء العسكريين يعتبرونه من ألمع جنرالات الحرب في العالم، الأمر الذي يضعه على قدم المساواة مع الكبار من أمثال جنرال إلكتريك وجنرال موتورز
(وهما شركتان أمريكيتان تخصصتا في الصناعات الهندسية كالثلاجات والغسالات وخلافها).
ذكر السعدني القصة في كتابه «أحلام العبدلله»،
وقال إن الرجل اتهمه بإهانته والقذف في حق القائد العام للقوات المسلحة، إلا أن المحكمة قضت ببراءته.
بيرم التونسي، شيخ الساخرين، كان أكثر مكرا وذكاء، إذ أشار السعدني في كتابه إلى أنه سبقه إلى نشر مقالة في صحيفة «المسلة» ــ التي عرفت نفسها بأنها لا جريدة ولا مجلة ــ كان عنوانها «ملعون أبو المحافظ».
وذكر فيها ما يلي:
بينما كنت أمشي في شارع الأزهر (بالقاهرة) إذ احتك بي نشال ولهف المحفظة التي في جيبي، فلما اكتشفت السرقة هتفت من أعماقي: ملعون أبو المحافظ.
والسبب إنني كنت قبل ذلك أضع النقود في جيبي، ولكن أحد أصدقائي نصحني باقتناء محفظة لحفظ النقود،
فإذا بالنشال اللعين ينشل النقود والمحفظة، وهذا هو السبب الذي جعلني أصرخ: ملعون أبوالمحافظ.
كان بيرم التونسي يكره محافظ القاهرة وأراد أن يحتال على سبِّه في العنوان.
إلا أن محكمة الجنايات برأته من تهمة السب لأن ظاهر كلامه ونصه لا يوحي بأنه يقصد محافظ العاصمة، ولكنه كان يسب المحافظ جمع محفظة التي سرقها النشال ومعه نقوده.
في مرافعة في إحدى قضايا الرأي أعدها المستشار سمير حافظ رئيس الاستئناف الأسبق، أورد نماذج أخرى لقضايا الرأى التي عرضت على محكمة النقض في عشرينيات القرن الماضي منها ما يلى:
ـ في عام 1924 نقضت المحكمة حكما أصدرته محكمة جنايات القاهرة بمعاقبة صحفي في تهمة إهانة مجلس النواب والشيوخ لنشره مقالا نسب فيها إلى فريق الأغلبية فيهما انه يعبد الحكومة ولا يحب الوطن..
وأنه جائع منحط ووظيفته هي التهام الوطن..
كما أنه نسب إليه الجبن والكذب وعدم الفهم وقصر النظر،
ونسب إلى رئيس مجلس النواب أنه جاهل لا يدري عمله ولا إرادة له.
وقد برأت المحكمة الصحفي ونقضت حكم الإدانة.
واستندت في ذلك إلى عدم توفر القصد الجنائي للصحفي لأنه تحرى بما كتب مصلحة البلاد.
ـ في عام 1926 تم نقض حكم لجنايات القاهرة أدان صحفيا في تهمة إهانة رئيس الوزراء، لأنه نشر مقالات اتهمه فيها بالجهل وقصر النظر والبعد عن الفطنة،
ونسب إلى أعضاء مجلس النواب الانحطاط والدناءة في أخلاقهم والجشع.
واستندت المحكمة في تبرئة الصحفي إلى أنه وإن استعمل الشدة في النقد إلا أنه أراد أن يشهد بالأفعال وليس الأشخاص.
ـ في عام 1928 نقضت المحكمة حكما بإدانة صحفي اتهم بإهانة وسب رئيس مجلس النواب وأحد الوزراء بأن نعته بأنه «هو وحماره يتراكبان، فمرة يكون إلى أعلاه وأخرى إلى أسفل».
وقد نفت المحكمة عن الصحفي سوء القصد، وبرأته استنادا إلى أنه قصد منفعة البلاد وليس الإضرار بالأشخاص.
لقد كان الصحفيون والكتاب أكثر ظرفا وشجاعة حقا،
لكن كان لدينا أيضا قضاء من نوع آخر يكاد ينقرض درجنا على وصفه بأنه شامخ، قبل أن تستهلك الكلمة وتبتذل.