مما تعجبُ له النفسُ وتقف طويلا هو تلك المتناقضات الإنسانية التى يمرُّ بها المجتمعُ المصريّ والدولى على السواء تجاه قضية الحريات فى العالم المسمى بالثالث.
قد نتفهم موقف البعض مما يحدث بأنها معركة المصالح الخاصة، لكن ما هو مبرر الآخر تجاه نفس القضية باتخاذ نفس الموقف تجاهها؟!.
ردة أخلاقية خطيرة يمر بها المجتمع المصرى منذ تم التخطيط للانقلاب على شرعية اختيار الشعب، ردة هبطت بالذوق العام إلى أدنى مستوياته، لنجد أنه لم يعد هناك احترام من صغير لكبير أو تقديس لحرمة عرض أو أرض، بعدما انتهك الإنقلابيون كل الحرمات حتى حرمة النفس الإنسانية بما فيها الدماء، وكأن جملة الأخلاق الفاضلة أصبحت عيبا أو تعبيرا عن الضعف.
ورسخ لتلك الردة إعلام فاسد كاذب، وانقلاب قام بأكبر عملية سطو فى التاريخ حين أقدم على السطو على إرادة أمة دفعت ثمن تلك الإرادة بدماء أطهر الشباب، وجهاز شرطة تحالف مع البلطجة لهزيمة كل ما يمت للقانون الإنسانى بصلة، وقضاء مزوِّر منوط به نشر العدل بين الناس بينما هو يرسخ لمبدأ الرشوة والتزوير وتشويه تعريف القانون بما يتناسب ومصالحهم الخاصة.
ترى، هل تلك هى المرة الأولى التى ينقسم فيها الشعب المصرى بهذا الشكل المهين والمجحف إنسانيا لبعض أطراف الشعب لمجرد تبنيهم لمنهج معين أو فكرة يؤمنون بها؟ حقيقة لم أجدها هى المرة الأولى، فقد فعلها الفرعون من قبل حين جعل مصر شيعا (وجعل أهلها شيعا) أى أحزابا وجماعات، قسم الشعب الواحد إلى شعبين، قاتل ومقتول، شامت وجريح، حر يمارس حريته خلف قضبان الاعتقال وعبد خارجها يلعق بيادات العسكر، قسم الشعب لشعبين، أحدهما يدفع ثمن الحرية من دمائه لكليهما، والآخر يتهم الأول بالإرهاب والعمالة والخيانة، أحدهما يدفع الثمن كاملا فى سبيل الكرامة والآخر ينعم بالعبودية ويريد إجبار الأول عليها، وإلا فهو خارج عن السرب.
امتد الأمر ليصل لأفراد الأسرة الواحدة، والشارع الواحد، ومرتادى المسجد الواحد، لتصير عداوة يغلفها الدم الذى ما زال يقطر من ربوع رابعة والنهضة وسائر ميادين مصر.
نعلم أن هناك المصالح التى تدفع أصحابها للحفاظ على ذلك الجو المشحون من الغضب والعداء المتأجج، فهناك دوما فسدة كل عصر الذين تقوتوا على مخلفات كرامة الشعوب، حتى ذلك الطرف الخارجى المستفيد الأول من عمالة أى نظام، من الطبيعى أن يكون حاضرا فى المشهد ومؤثرا فيه إلى حد ما تبعا لمصالحه مع الأنظمة القائمة.
لكن ما يحيرنا حقا هم هؤلاء المضارون من ذلك الانقسام البشع الذى لا يتكرر إلا فى مثل هذه الفترات فى التاريخ، فترات الضعف والهوان والبيع والعمالة. كيف لتلك الفئة التى وصفها الإسلام بأنهم يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم، فلا هم كسبوا دنيا ولا آخرة، تلك هى الفئة التى تحيرنا حقا، إذ كيف يؤازر من يقتل ومن يسرق ومن يهدر كل خير ثم هو لا يحصل على أدنى مقابل، فى حين أن كل جرائمهم هى فى سبيل من أحسن لهؤلاء الضعفاء دوما!! كيف يرتضون بإيذاء اليد التى طالما امتدت لهم بالخير دوما؟!! بل ربما يكونوا هم اليد التى يستخدمها الباطل فى العصف والقصف بهم!! كيف يرتضى هؤلاء أن يقوموا بهذا الدور الذى يضرهم ولا ينفعهم، هل هى صفة متأصلة فى تلك الفئة؟ هل هى متلازمة لهم؟ هل هم نوع من البشر موجود فى مثل تلك الظروف دوما؟ لست أدرى غير أنها ظاهرة مرتبطة أولا وأخيرا بوجود فرعون يكون همه الأول تقسيم الشعب وجعله شيعا كى يفوض ويشارك فى القتل كما فعل الفرعون من قبل (وقال فرعون ذرونى أقتل موسى).
لا حل للخروج من تلك الأزمة سوى بالقضاء على أسبابها، فليرحل النظام الفاسد حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، وليسقط حكم الانقلابيين حتى يعود الإنسان فى بلادنا إلى إنسانيته قبل فوات الأوان.