السيسى قائد الانقلاب.. يسرق الآن نصر 6 أكتوبر العظيم كما أن خطابه وخطاب رئيسه الانقلابى ورئيس وزرائه الانقلابى بهذه المناسبة، المفعمة بالوعود الكاذبة والتطمينات الهشة، تشوه ذاكرة الشعب المصرى عن هذا النصر العظيم. إن السيسى يوظف هذا النصر لتحقيق مكاسب سياسية وليجمل وجه الانقلاب القبيح وليغسل يديه من دم المصريين وحرياتهم. لأنه فى واقع الأمر يكمل مشوار عملية الاستسلام والتبعية لأمريكا والتطبيع مع إسرائيل، وهو المشوار الذى دشنه السادات وأكمله مبارك على نحو تم معه –عبر 40 عاما- تفريغ نصر أكتوبر من محتواه ومن مآله المرتقب كعبور حضارى؛ حيث تحول مسار النصر إلى هزيمة حضارية تحت وطأة "السلام كخيار إستراتيجى"، وحرب أكتوبر كآخر الحروب، والانفتاح الاقتصادى والرأسمالية المتوحشة، والانفلات القيمى، وجميعها قيود كبلت الاستقلال المصرى برؤية ضيقة عن الأمن القومى المصرى.
فبعد أن جسدت حرب أكتوبر نجاح القيادة والشعب فى التغلب على أسباب هزيمة 1967، وعلى رأسها تدخل الجيش فى السياسة والترهل المهنى المؤسسى؛ فإذا بمسار 40 عاما يدعم من أشكال أخرى لهيمنة الجيش على السياسة والاقتصاد والمجتمع فى مصر، ولو من الأبواب الخلفية. وها هو السيسى فى 3/7 يستعيد بانقلابه العسكرى بريق دور المؤسسة العسكرية فى السياسة وبصورة مباشرة من جديد. فلقد ضرب السيسى بقوة ثورة 25 يناير التى تحدت نظام مبارك وفى قلبه نفوذ العسكر، حين ضرب مسارها الديمقراطى الوليد، مقدمًا قربانًا، وهم الإسلاميون، حماية للاستبداد من جديد.
وفى المقابل يتهم الانقلابيون الآن معارضى الانقلاب، الذين يخرجون منذ الجمعة 4/10 احتفالا أيضا بنصر أكتوبر، بأنهم لا يحبون الوطن ويكرهون الجيش وأنهم عملاء يثيرون الفتنة والفوضى، بل إنهم ليسوا مواطنين معارضين بل إرهابيين سيتم التصدى لهم بقوة لمنعهم من تكدير صفو الاحتفال، ومن ثم منع وصولهم لميدان التحرير وغيره من ميادين الاحتفال بقوة الغازات بل الرصاص الحى.
وفى واقع الأمر، فإن هؤلاء رافعى شعار رابعة فى ذكرى نصر أكتوبر، وهم يحتفلون بهذا النصر أيضا لأنه نصر الشعب المصرى كله وليس جيش مصر بمفرده، إنما يحتفلون به كجزء من مقاومتهم لإرهاب الانقلاب وكشف أقنعة هذا الانقلاب وأهدافه. إنهم يرسلون رسالة قوية وواضحة، وهى أن من حرر الأرض وهزم العدو بالتحام قوى مع الشعب منذ 40 عاما، ليس هو ذلك الانقلابى الذى يرتكب مجازر دموية ضد الإنسانية، وليس هو الذى يكمم الأفواه ويعتقل الالآف ويعيد زرع الخوف والتخويف ويبث التحريض والعنصرية والكراهية بين أهل مصر.
إنه الانقلاب الذى يميز الآن بين شعبين أحدهما يمنعه بالقوة من الدخول لميدان التحرير للاحتفال مثل غيره من "المواطنين الشرفاء" (مؤيدى الانقلاب الذين يتم فتح الميدان لهم للاحتفال وهم يرفعون صورة السيسى وليس صور أبطال نصر أكتوبر).
إنه الانقلاب الذى لا يقود الآن أمة عربية وإسلامية فى نضالها ضد المشروع الأمريكى الصهيونى، كما تجسد خلال حرب أكتوبر حين وقع الحظر على البترول وتقديم الدعم لشرف العسكرية المصرية، ولكنه الانقلاب الذى يستجدى الآن الصدقة ممن سبق وتمتعوا بقوة مصر الناعمة والصلدة على حد سواء. وهو الانقلاب الذى لا يقدر أن يتلاعب بقوتين أعظم كما حدث فى 1973، ولكن يستمر فى الخضوع لتبعية الولايات المتحدة التى يسعى جاهدًا لينال رضاها، كما يوقع الانقلاب مؤيديه فريسة وهمٍ خطير أنه يناضل من أجل استقلال مصرى فى مواجهة ما يسميه ضغوط أمريكية ضد "إرادة الشعب المصرى فى 30/6/2013". فإذا لم تكن الولايات المتحدة قد عارضت الانقلاب بقوة، فإن مسلكه الداخلى والخارجى يجتهد الآن لاستمرار التحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
إن السيسى وأعوانه يكملون المرحلة الراهنة من إستراتيجية أمريكا وإسرائيل للحرب على الإرهاب (المقصود به الآن كافة روافد الإسلاميين وليس القاعدة فقط..).
بعبارة أخرى، إن الشعب الرافض للانقلاب وهو يحتفل بنصر أكتوبر إنما يهدف إلى التذكرة بما نريد أن يكون عليه جيشنا الوطنى وأن يستعيد عقيدته وروحه التى حققت نصر أكتوبر 1973.
ومن ناحية أخرى، فإن مشهد تصدى الشرطة والجيش بقوة مفرطة للمتظاهرين فى 6/10، أوقعت 57 شهيدًا وأكثر من 200 مصاب و300 معتقل، قد أكد كيف أن الحل الأمنى الاستئصالى هو اللغة الوحيدة التى يعرفها الانقلاب ضد معارضيه. وبذا يتعارض معنيان كبيران فى احتفال هذا العام بنصر أكتوبر: أولهما معنى الحريات وحقوق الإنسان التى ينتهكها الانقلاب، والثانى معنى النصر على العدو والاستقلال الوطنى الذى يوظفه الانقلاب لتجميل وجهه.
وأخيرًا، فالأكثر دلالة فى هذا السياق المعقد والمركب هو مغزى الاحتفالية الفنية التى انعقدت فى استاد الدفاع الجوى، فى الوقت نفسه الذى يسقط فيه الشهداء والمصابون والمعتقلون. فإن الكلمة الافتتاحية لأحد الممثلين ثم فقرات الحفل الزاعقة من على مسرح فاقع الألوان ومتلألئ الأضواء ينضح بالبذخ السفيه، ثم منصة النخبة الانقلابية المطلة على هذا المسرح وسط ظلام دامس يلف مدرجات الاستاد والمفترض أنها تضم "الشعب" الذى ظل وراء حجاب لا يعبر عن وجوده إلا ما يذاع من صفيره وتهليله، كل هذا يمثل مشهدًا انقلابيًا مبتذلا من الناحية الإنسانية والقيمية، ناهيك عن فجاجته السياسية، وقد تجسدت هذه الفجاجة مع كلمة السيسى الختامية للحفل.
فالاحتفال رسمى نخبوى باهظ التكلفة مؤمَّن ومحصَّن، فى حين ينعقد احتفال آخر شعبى فى ميدان التحرير. وكانت المنصة تجسد إرث 60 عامًا من شخصنة النظام المصرى بقيادات عسكرية: ابن الرئيس عبد الناصر، حرم الراحل الرئيس أنور السادات، المشير طنطاوى وزير دفاع مبارك لمدة عشرين عامًا، الرئيس المؤقت ورئيس الوزراء الانقلابيين وقائد الانقلاب. إنه إرث ثلاثى الروافد: الناصرية، الساداتية، المباركية، يؤكد تحالف هذه الروافد فى ثورة مضادة لثورة 25 يناير، أفرزت الطبعة الرابعة من نظام هذه الدولة العميقة الذى أسسه العسكر منذ 1952، أى نظام الانقلابيين ضد الشرعية الدستورية, وهو النظام الذى يحظى بمساندة خليجية (حضور وزير خارجية الإمارات).
وفى النهاية، وعلى ضوء استدعاء خلفية الرصاص والدم والشهداء والمعتقلين عبر أرجاء العاصمة الكبرى ومصر كلها، فإن السيسى يختم الحفل بكلمات على رأسها: التذكرة بالتفويض ضد الإرهاب، على أساس أن تفويض الشرطة والجيش يضع مسئولية عليهم أمام الإرادة الشعبية.
فعن أية مسئولية يتحدث؟ مسئولية استكمال إقصاء واستئصال تيار الدفاع عن الشرعية والرافض للانقلاب؟ كيف وهذا التيار فى صمود واتساع رغمًا عن أنف الانقلابيين الذين يرفضون الاعتراف بالأمر الواقع على الأرض، وما زالوا يسفهون من جدوى هذه المقاومة ويبالغون فى عدم تأثيرها وخاصة على مواقف الخارج من الاعتراف بالأمر الواقع الذى فرضه الانقلاب؟
إن كلمة السيسى فى نهاية حفل الخزى والعار، الذى لم تشهد مصر له مثيلا من قبل، يكتمل مغزاها بحديثه المتزامن لجريدة المصرى اليوم.. ومن أخطر ما قيل فيه إن ولاء القوات المسلحة للوطن وأن ولاء الإخوان للجماعة وللأمة ولا ترتبط بالوطن، وأن مشروعهم فشل وانتهى، وأن الوطن كان فى خطر أنقذه الانقلاب منه. إن الخطورة فى هذه المفاهيم تكمن فى التماهى بين الجيش والوطن، وتقديس الجيش وقياداته باعتباره هو من يحدد الخطر على الوطن ويحدد مفهوم الأمن والمصلحة الوطنية وكيفية حمايتها بل توقيت التدخل من أجل هذه الحماية حتى لو اقتضى الأمر إسقاط رئيس مدنى منتخب انتخابًا حرًا نزيهًا للمرة الأولى فى تاريخ مصر بحجة أن رؤيته وسياساته تهدد الأمن المصرى وأركان الدولة المصرية.
والدلالة الأكبر لهذه التصريحات (برجاء قراءة النصوص كاملة وربطها بسياق الأفعال والممارسات) أن الانقلاب لم يكن ضد رئيس فاشل ولكن ضد مشروع هذا الرئيس برمته وضد التيار الفكرى والسياسى الذى يمثله.
لكل ما سبق وغيره أقول إن السيسى يسرق نصر أكتوبر ويستكمل مسار مبارك ومسار السادات منذ 1977، فى خنق حريات المصريين وإحكام قيود التبعية حمايةً لشبكة مصالح مادية يحرقون فى سبيلها كل قيم، مؤكدين أن الحريات والاستقلال الوطنى -وهما صنوان- سقطا ضحية الانقلاب. وحمل مشهد الاحتفال بذكرى 6 أكتوبر فى 2013 العديد من الدلالات بهذا الصدد.
فليحقق السيسى، إذا استطاع ولن يستطيع، الاستقلال الوطنى، ولكن لن يكون الثمن هذه المرة أيضًا حرياتنا. فلا نقبل أن يتكرر مشهد عبد الناصر، الذى رفع راية مشروع استقلال وطنى وعدالة اجتماعية ولكن ملتحفًا باستبداد وقهر، لأنه لا استقلال خارجى والداخل يرفل فى خوف واستبداد. وبالطبع فإن خطابات الاستقلال الوطنى الزائفة الآن، مقابل نزع صفة الوطنية وإلصاق تهمة الخيانة بمعارضى الانقلاب، ليست إلا أوراقًا للمناورة وللتجميل، فلا يمكن للانقلاب أن يحقق استقلالا وطنيًا ويحمى أمنًا قوميًا وهو يقهر الحريات ويدفع لانهيار اقتصادى ويقسم الشعب إلى شعبين, يحرض كلا منهما على الآخر. إنه آخر طبعة من نظام 23 يوليو بطبعاته الثلاث السابقة، مع ناصر والسادات ومبارك، تناوبوا على شعب مصر وأوصلوه إلى ما هو عليه الآن، ووظف كل منهم شعاراته وسياساته، وها نحن مع الطبعة الرابعة مع انقلاب السيسى يعيد الساعة للوراء 60 عامًا وليس عامين ونصف عام فقط.