أما المنطقية، فالواضح لا يقابله غير الواضح، ومقابلة المتوهم أو المشكوك فيه المختلف في شأنه على الأقل (كون انقلاب العسكر ثورة) على الواضح (الانتخاب الشرعي للرئيس) مما تأباه الطبائع السوية، مؤداه أن القائل به لا يختلف عمَّن يقدم المرجوح على الراجح، إذ لو كانت الفئة الباغية تتصور أن الانقلاب ثورة لها هذا العمق الجماهيري، لما ترددت في قبول إجراء الانتخابات، وخاصة في ظل عمليات الإفشال الممنهجة لمشروع رئيس انتخب بعد ثورة.
حيث تعرض لمحاولات إفشال قادتها باحترافية ماكرة شخصيات في مفاصل القرار في مؤسسات سيادية، ولعل على رأسها المؤسسة العسكرية والداخلية والقضاء والإعلام، تلك المؤسسات التي احتمت في عهد الرئيس بشعار "لا للأخونة"، وهي ليست إلا صورة من صور التعبير عن منع تطهير هذه المؤسسات من الفاسدين الذين ليسوا إلا أنصارا لمن غلب، وسيبقون ما بقوا في هذه المؤسسات أنصارا لكل من غلب بحسب تقديرهم.
وكان المنتظر في ظل كل هذه المحاولات البائسة واليائسة، أن يصلوا بالشعب الرافض لسياسة الفئة الباغية، إلى حالة من اليأس تسلمنا إلى نتائج لا يمكن التحكم في مخرجاتها، وخاصة في ظل أرض استصلحوها لزارعة العنف، وجو هيأوه للولادة "السننية" للعنف، وقد خيب الله ظنهم، ورد كيدهم، فبالرغم من التقتيل والترويع والاعتقالات التي تعرض لها أنصار الشرعية، وتعطيل جملة دواليب الحياة الاقتصادية والتربوية والتعليمية والإعلامية، فضلا عن التقهقر الفظيع لحقوق الإنسان والحريات السياسية، و… لم تنجح الفئة الباغية في عسكرة النزال السياسي والزحام الفكري، بل ما زاد قمع السلميين المدافعين عن الشرعية والتعامل معهم بهمجية ووحشية، إلا تشبثا بالسلمية لأنها المبيد الحقيقي لعسكرة النزال السياسي.
وقد تنبه ونبه أنصار الشرعية في مصر وخارجها منذ بدايات طلب "التفويض" – تحويل الحراك السياسي إلى حراك عسكري – إلى التشبث بالسلمية مهما كانت التضحيات، ومهما كانت الإكراهات، مما يجعل الحراك السلمي "اللاعنفي" مع الصبر والتنبه إلى مخرجاته وأهميته، الوسيلة الفعالة لاستعادة المجتمع هيبته، وبهذا يدفع أهلنا أمرا كان التعويل عليه كبيرا من قبل الفئة الباغية وأنصارها من العرب والغرب والعجم.
كان الرهان بالنسبة للفئة الباغية أن يتولى الزمان مهمة طي صفحة الشرعية مع السعي الدائب في اتجاه التشهير بالشرعية وأهلها وعلى رأسهم الرئيس المنتخب، تلك هي جملة رهانات الفئة الباغية، وسنعرض في هذه العجالة جزءا يسيرا من جملة رهانات الفئة الباغية، لعل من أهمها:
الرهان الأول: عسكرة النزال السياسي:
والاستفادة من خبرة البلطجة وسجناء الحق العام في تلويث البيئة الاجتماعية، والاستعانة بكل مستعد لبيع ذمته أو إيجارها، لتأليب المجتمع المستفيد من الانقلاب على المتضرر، وتوريط الشعب في التناحر، أي التحريض على قتل المعارض والمخالف في الرأي أو المشكوك في ولائه للزمرة المتنفذة، والأدلة على ذلك أكبر من أن تحصى، آخرها محاكمة الرئيس واستبعاد أغلب الضحايا، فالقضية التي يحاكم لأجلها الرئيس هي التحريض على القتل في قصر الاتحادية، واستبعدوا في الوقت نفسه 80% (ثمانية من عشرة)، لا لشيء إلا لأنهم من "الاخوان" والواقع أن المحكمة إذا قبلت بهذا المنطق، فإنها ستنزل نفسها من عرش العدالة إلى زائدة دودية للفئة الباغية، وكل الجهود المشار إليها ليس لها من هدف غير إخراج التزاحم السياسي والنضال السياسي من السلمية إلى العسكرة.
وتمكينا لهذا المسعى تعتقل السلطة قيادات الصف الأول والثاني والثالث في جملة مكونات الرافضين للانقلاب المدافعين عن الشرعية، لأن الفئة الباغية تتصور أن اختطاف القيادات وتلفيق التهم، سيزيد من حجم غضب الشعب الرافض للانقلاب، وفي ظل هذه الظروف سيتولى قيادة الحركة الاحتجاجية شباب تدفعهم الفتوة والقوة الشبابية وقلة الحيلة السياسية إلى التصرف بطريقة شرسة غير محسوبة النتائج، ولا يعلم مداها إلا الله، ولكنها معلومة المخرجات بالنسبة للفئة الباغية،
ولكن الله خيب ظنهم، فلم يفلحوا في زراعة العنف "الذي استصلحوا الأرض السياسية والاجتماعية لغرسه، وهيئوا الظروف لنموه واكتماله"، تبريرا لبقائهم بالعنف والاستئصال، الذي يأتي على كل معارض شريف، فلا نص غير نص الفئة الباغية، ولا حاشية مقبولة غير الحاشية على متنها، فرد الله كيدهم، وتشبث المجتمع بالسلمية ولا شيء غير السلمية؛ لأن القلوب قد تحققت والعقول قد اقتنعت أن مسعى العسكرة سعي فاشل غرضه الابتزاز السياسي الرخيص، هدفه منع استعادة الشرعية، والدفع نحو عسكرة المغالبة السياسية.
إن قبول العسكرة أو الوقوع في فخها إرسال قارب نجاة للفئة الباغية، إنها الحجة التي تقدمها للرأي العام الدولي والحيلة التي تتوسل بها لابتزاز المجتمع المصري لأجل بقائها في سدة الحكم، فالثبات على السلمية، مهما كانت التضحيات، وسيلة فعالة لاستئصال فكرة الانقلاب كآلية للوصول للسلطة أو البقاء فيها.
الرهان الثاني: إنتاج آليات تعطل الثورة الحقيقية:
أن تتمكن الفئة الباغية أي الانقلابيون "قيادات القوات المسلحة والزوائد الدودية في البلطجية الدينية بكل أشكالها، والبلطجية الاجتماعية والإعلامية بكل ألوانها وأطيافها، و…" من إنتاج آليات تعطل الثورة الحقيقية، وإجهاض بعض نتائجها، وتمنع إعادة إنتاجها، وذلك من خلال الانحراف بها عن أهدافها بالتأليب "المشرعن" دينيا وسياسيا وأخلاقيا و…، ولكنها عوضا أن تفضي إلى هذا القصد، أنتجت نقائضها بطريقة سننية، فقد بدأ عدد الرافضين للانقلاب بالزيادة بطريقة لم تكن متوقعة عند الفئة الباغية وفلاسفتها، وقد صرح غير واحد من الذين "فوضوا" بندمه على فعل، متبرئا إلى الله من صنيع الفئة الباغية، وعوضا أن تصنع الفئة الباغية آليات الإجهاض، بعثت في أوصال الجسد الثوري تطعيما ضد أوبئة فقد المناعة الثورية، فزادت الثورية السلمية تعلقا بمسلك المغالبة والمقاومة اللاعنفية لعسكرة الحياة السياسية، وبهذا خيب السلميون ظن الولايات المتحدة الأمريكية وجلاوزتها بعملهم اليومي الدائب المضبوط المتحكم في مخرجاته السياسية والاجتماعية، فلا عنف ولا تشجيع لعنف مهما كانت الظروف منعا من أن تتحول الثورة عن مقاصدها، ودفعا لإمكان إنتاج الثورة لعناصر إفنائها؛ لأن الزخم الثوري الراهن قوته في سلميته ولا شيء غير سلميته.
الرهان الثالث: الوقت جزء من العلاج:
راهنت الفئة الباغية في البداية على تحويل الصمود الأسطوري لرابعة العدوية والنهضة إلى حدث عادي، أشبه بالاحتفالات الموسمية التي يذهب زخمها مع الوقت، ولكنها لما أيقنت أن الحيلة لم تنطل على شرفاء السلمية، وفي لحظة غضب جنوني (لأن الغضب الشديد يصل بالغاضب حد التصرف تصرف المجانين).
بينت الأيام أن المراهنة على نفاد صبر المعتصمين خاسرة، فأفضى الأمر إلى نفاد صبر الذين راهنوا على نفاد صبر السلميين، فلجئوا إلى الجرائم التي يرفضها ويدينها كل عاقل تقوده إنسانيته وليست مصالحه، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والأحزاب اللبرالية واليسارية والحركة السلفية التي فقدت معنى الانتماء والحركة الطرقية التي ضلت الطريق وعلماء ضيعوا رشدهم وعقولهم، ومتحولين يمموا اتجاه الغالب…أثبتت الأيام أن وقوف الولايات المتحدة وتوابعها من العرب والعجم مع طول مدة الظلم وقسوته، لم يغير شيئا من تحقق قلوب المدافعين عن الشرعية بأن الزمن ليس ضدنا بل في صالحنا؛ لأننا على صواب واخترنا الطريق الصحيح لاجتثاث البغي كآلية للنزال السياسي.
الرهان الرابع: أن يكون الرئيس والمدافعون عن الشرعية على طرفي نقيض:
بمعنى أن يخذل أحدهما الآخر، كأن يدخل الرئيس جلسة المحاكمة متمارضا أو مستجديا وقابلا بالأمر الواقع، أو…، ولكن دخوله بالطريقة التي اكتشفنا جزءا يسيرا منها مما عرضته وسائل إعلام الفئة الباغية (لأنها الجهة الأساسية التي مررت ما رأته مناسبا من جلسة المحاكمة)، جعلت الناس يقتنعون أنهم أمام رئيس بالفعل لا يفرط في العهد الذي قطعه على نفسه أمام الله ثم أمام الشعب، وهو ما زاد ثبات المدافعين عن الشرعية، الثابتين أصلا، وجعلتهم يزيدون في ثبات الرئيس، الثابت أصلا، فعوضا أن تكون جلسة المحاكمة حيلة لفك الارتباط بين الرئيس الشرعي والمدافعين عن الشرعية، وفق ما تصورت الفئة الباغية، كانت وسيلة لتفعيل حيوية أكبر في المغالبة السياسية السلمية، فاستعاد كل منهما الآخر بالرغم من التغييب الذي مارسته الفئة الباغية على الرئيس، ومنع وسائل إعلام الفئة الباغية من تغطية الحراك السلمي المطالب باستئناف الشرعية، وهذا بالرغم من منع تصوير وقائع المحاكمة، وفي ذلك أكبر دليل على حججهم الواهية وتدبيرهم السيئ للانقلاب وتسيير تداعياته.
الرهان الخامس: التخويف ثم القتل والرعب لأجل الترويع:
مع ما تعرَّض له السلميون المدافعون عن الشرعية من هموم وأحزان تنأى الجبال عن حملها، لم يميلوا عن سلمية المغالبة السياسية، وكان المنتظر بحسب الفئة الباغية أن التخويف ثم التقتيل بقصد الترويع سيفضي إلى عودة الناس للحياة العادية وقبول الانقلاب على إرادة شعب وجعله أمرا واقعا، ويبدو أن أمريكا وزبانيتها قد راهنوا على تعود الناس على قبول الانقلاب، وتطبيع العلاقة به، أي جعله أمرا عاديا، بمعنى تعويد الناس على قبول الانقلاب على إرادتهم وإهمالها، ويظهر أن هذا التحليل مبناه ما تعودوا على رؤيته في المجتمعات العربية.
ولكنهم لا يعلمون أن زمن التعود على قبول قرارات الفئة الباغية، وجعلها أمرا واقعا، قد ولى بعد أن قام المجتمع بثورته التي أرادوا منع اكتمالها وانتصارها، فكانت محاولات الترويع، عاملا مهما في الحفاظ على الزخم الثوري السلمي، لتيقن القيادة الشرعية السياسية والشعبية وجمهور المدافعين عن الشرعية أن الزخم الثوري السلمي ينبغي أن يحافظ عليه للوصول بالثورة إلى مقاصدها، التي رأسها عدم التفريط باستعادة الشعب لكلمته السيدة، وكون الصندوق هو الطريق الإجباري للتكليف بالسلطة أو البقاء فيها أو مغادرتها، ولا طريق غيره، فقد أفضت محاولات الترويع الممارس بالقتل والاعتقالات إلى نقيض القصد.
فكانت نتائجها الرئيسة على قول إخواننا في مصر "ما تفرقش معانا الموت أو الحياة"، فإما أن نحيا سعداء أو نموت شرفاء، ولا وسط بينهما، وهو ما أربك المراهنين على التخويف، ويكفي فقط أن تشاهد ما تلتقطه عدسات الكاميرات، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما تناقلته وسائل الإعلام عن قائد عمليات فض الاعتصامات الطلابية في جامعة الأزهر عندما أخرج سلاحه الشخصي من حزامه ملوحا باستعماله، فجاءته الحشود الطلابية من كل جانب مما اضطره للانسحاب خائبا، فبدا جليا الرعب على المرعِب، وارتد رمي التخويف على الرامين، وهي السمة العامة لكل تصرفاتهم السياسية والعامة والإعلامية، إذ نرى أنها ناطقة بالرعب الذي سكنهم.
الرهان السادس: صناعة اليأس:
رمت الفئة الباغية إلى تشجيع صناعة الخوف من المجهول ليسهل زراعة اليأس من إيجاد حل مع الشرعية الشعبية، بقصد الحط من القدرات النفسية، حتى أن بعض المناوئين للشرعية المؤيدين للفئة الباغية كبر عليهم أن يروا الرئيس بهذا الشموخ، فعوضا أن يكون تصرفه وموقفه مثار إعجاب، أخرج هذا الموقف ما تكنه صدورهم للشرعية من حقد، حتى أن بعض المشتغلين بتخريب الوعي تمكينا لتدمير القوى المعنوية الباعثة على التضحية لأجل استعادة الشرعية الشعبية، كَبُرَ عليه صمود الرئيس فعدَّه ممثلا، والحق أن الرامي أولى بما رمى به الرئيس، فهذا يمثل على نفسه، ويريد أن يقنع الآخرين بما ليس مقتنعا به، كأنه مسوق يأس من إمكان الحل، تيسيرا لتجفيف منابع التضحية.
وكل تصرفات وتصريحات الفئة الباغية وخدمها تؤكد أن اليأس قد انتقل إلى جهتهم، وهو ما يفسره تغيير نصوص الحبس الاحتياطي لأجل تحرير الحبس من حد السقف الزمني، وتأجيل المحاكمات، ومنع المتهمين من حقوقهم القانونية التي تضمنها كل المواثيق الدولية، ومشروع قانون التظاهر،… والحبل على الجرار.
بينت الأيام أن الرئيس والمدافعين عن الشرعية على خط واحد، فكل منهما يشد عضد الآخر، الرئيس فخور بالشعب الذي لم يقبل الدنية في حقه الشرعي وقدم الغالي والنفيس لأجل الحفاظ على الشرعية، وأبدع كثيرا من الأساليب السلمية التي سيدون في تاريخ الشعوب الحية بماء الذهب، والشعب حمد للرئيس صنيعه عندما رآه في مستوى تطلعاته، وهو بهذا يقف إجلالا للتضحيات الجسام التي قدمها الشعب نصرة للشرعية، ودلت الأيام أن رهانات الفئة الباغية ارتدت على أصحابها، فكل ما تمنت تحقيقه تحقق في الواقع نقيضه، وكل المراهنات عادت وبالا على المخطط لها ومنفذها.
وسيكتب التاريخ أن رهانات الفئة الباغية قد أوقفها الرئيس مرسي بقيادة الشعب المصري عند مرساها الأخير، فلن تعود الانقلابات آلية للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، وسيحفظ التاريخ أن الشعب المصري المدافع عن الشرعية بالوسائل السلمية قد أعاد للمجتمعات العربية والإسلامية الشعور بقيمتها وقدرتها على التغيير الثوري السلمي.
لهذا كله نشد على أيدي أهلنا لأنهم أوصلوا الفئة الباغية إلى مرساها الذي أنهى سيرها وأوقف مجراها، هذه محطتها الأخيرة، ولن يعود الانقلاب آلية للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
_____________
مفكر جزائر
ي