يخيفنا أمران في الوقت الراهن، أن تندفع مصر باتجاه استعادة الدولة الأمنية والبوليسية، وأن تحتفي بذلك هيستيريا جماهيرية غير مكترثة بمآلات ذلك المنزلق الخطير.
(1)
في صحيفة الصباح أن 575 ضابطا من عناصر جهاز أمن الدولة الذين حملوا نظام مبارك وتم إقصاؤهم بعد الثورة أعيدوا إلى الخدمة مرة ثانية، في اليوم التالي قرأت أن شابا من سوهاج اسمه علاء الهواري اشترك في مظاهرة احتجاجية على نقص أنابيب البوتاجاز فألقي القبض عليه وأودع أحد معسكرات الأمن المركزي.
أنكرت على نفسي أن أعتبره خبرا عاديا. بعدما قرأت في تقرير حقوقي أن 12 ألف مواطن ـ أغلبهم من الشباب الفقراء ـ صدرت ضدهم أحكام بالسجن في محاكمات عسكرية.
ولم أصدق عيناي حين قرأت أن أربع فتيات في الإسماعيلية ألقي القبض عليهن لأنهن رفعن في أحد الشوارع «بالونات» حملت إشارة رابعة.
واستغربت أن يلقى القبض على 21 فتاة أغلبهن من طالبات الثانوي نظمن مسيرة سلمية احتجاجية على كورنيش الإسكندرية، فألقي القبض عليهن.
وبكل فظاظة أصدر وكيل النيابة أمرا بحبسهن مدة 15 يوما، وتم ترحيلهن إلى سجن دمنهور.
ولما حدثت غيري بما استهجنته ذكَّرني بأن 76 سيدة وفتاة أخريات تحت الحبس الآن،
وأن هناك 120 من القصر تم اعتقالهم أيضا. ضمن الـ13 ألفا من المنسوبين إلى الإخوان الذين تم توزيعهم على مختلف المعتقلات المصرية.
وتزامنا مع إيقاف برنامج باسم يوسف الساخر الذي لم تحتمله أجواء الدولة الأمنية والهيستيريا الجماهيرية، ومع معاقبة بطل الكونغ فو العالمي وحرمانه من تمثيل مصر لأنه رفع إشارة رابعة، والتحقيق مع لاعب النادي الأهلي الذي ارتكب «الجرم المعهود»، لاحظت أن بعض الخطابات التي أتلقاها في الآونة الأخيرة تصلني بغير توقيع.
وفي واحد منها اعتذر صاحب الخطاب ـ الذي قدم نفسه باعتباره مهندسا استشاريا ـ قائلا إنه تعمد ذلك خشية أن يقع في أيدي الأجهزة الأمنية.
واستوقفني حين استقبلت في منزلي أستاذة جامعية محترمة، أنها لم تتحدث في اللقاء إلا بعد أن أغلقت هاتفها النقال واستخرجت الشريحة منه، واعتبرت ذلك احتياطا مرغوبا في ظل الأجواء الراهنة.
لا أعرف حجم الحقيقة أو المبالغة والوهم في بعض ما ذكرت، لكني أجد فيه أصداء للشعور بالخوف والتوجس.
وذلك أمر غير معهود بعد ثورة 25 يناير، التي اعتبرنا أنها أطلقت سراح شعب ظل يعاني القهر المقترن بالفساد لعدة عقود، حتى أننا بعد الثورة مارسنا في التعبير والتظاهر حرية بلا سقف (انطلاق برنامج باسم يوسف رمز لتلك المرحلة )
(2)
لا أخفي أن الخوف تسرب إليّ حين اطلعت أخيرا على مشروع قانون الإرهاب الجديد الذي أعدته وزارة الداخلية.
ولم أكن وحدي في ذلك، لأنني وجدت أن 22 منظمة حقوقية أجمعت على رفض المشروع واستهجانه،
ولم يكن بينها المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي عينته الحكومة.
واتفقت مع البيان الذي أصدرته تلك المنظمات على أن من أبرز عيوب المشروع ما يلي:
< إن مصطلحاته فضفاضة وغير منضبطة، بحيث يمكن أن تنطبق على ما لا حصر له من الأفعال المشروعة.
فهو يتحدث في تعريف الإرهاب عن
«الإخلال الجسيم بالنظام العام»
و«تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه للخطر»
و«إعاقة السلطات عن ممارسة بعض أوجه نشاطها»
و«تعريض حياة المواطنين أو حقوقهم وحرياتهم للخطر»
و«منع مؤسسات التعليم من ممارسة عملها».
واعتبر المشروع أن العمل الإرهابي هو «كل سلوك من شأنه الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية أو النظم المالية أو الاقتصاد الوطني».
وهو ما فهم منه أن المقصود به في حقيقة الأمر تقييد حركة الجماعات السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، وليس مكافحة الإرهاب.
< تعمد المشروع التوسع في الجرائم والأفعال المدرجة باعتبارها أعمالا إرهابية، بما أعطى انطباعا بأنه استهدف التنكيل بالمعارضة السياسية السلمية وأغلب المنظمات الحقوقية،
فالمادة 13 من المشروع تعاقب بالسجن المشدد «كل من أنشأ أو أسس أو نظم أو أدار جمعية أو هيئة أو منظمة أو تولى موقعا قياديا فيها، يكون الغرض منها الدعوة بأي وسيلة إلى تعطيل أحكام الدستور أو القوانين أو الإضرار بالوحدة الوطنية».
وهو ما يخضع دعاة الإصلاح الدستوري أو القانوني لاحتمال الاتهام بالإرهاب.
كما أنه يسمح بتوجيه الاتهام ذاته إلى الرافضين للتمييز الديني والمدافعين السلميين عن حقوق الأقليات.
< من الغرائب أن المشروع في مادته الخامسة ساوى بين الشروع في الجريمة الإرهابية وبين تنفيذها بالفعل، حتى إذا لم يتم التنفيذ وأخضع الاثنين إلى عقوبة واحدة.
الأمر الذي يثير سؤالا عبثيا يتمثل في حالة الشخص الذي يتفق مع آخر على ارتكاب جريمة إرهابية ويعد العدة لذلك ثم يعدل عن الاتفاق.
وبمقتضى القانون الجديد فإن مجرد الاتفاق يعني أن الجريمة تمت، الأمر الذي يثير سؤالا حول ما إذا يتعين في هذه الحالة أن توقع عقوبة الفعل على الشخص رغم عدوله عن الجريمة!
< من قبيل الإخلال الفادح بمعايير المساواة أمام القانون فإن المشروع استحدث في المادة 40 نيابة مخصصة لمكافحة الإرهاب، مع تخصيص دوائر بعينها للنظر في قضايا الإرهاب.
وهو ما من شأنه تدخل السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل في تسيير شؤون العدالة ويزيد من الشك في حياد القضاة والمحققين.
ذلك أنه إزاء العبارات الفضفاضة التي حددت الأفعال والجرائم الإرهابية، فإن التضارب يصبح واردا في تقديرات سلطات التحقيق والقضاة، الأمر الذي يخل بضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة.
(3)
لو أننا بصدد قانون معيب لابتلعناه على مضض ولناضلنا من أجل سحبه وتعديله.
وربما صبرنا عليه لبعض الوقت وقلنا إنها حكومة وغلطت، إلا أن الأمر أكبر من ذلك بكثير.
ذلك أننا بإزاء حزمة قوانين استقوت بها السلطة علينا، وداهمتنا بها خلال الأشهر الأربعة الماضية، الأمر الذي يدعونا إلى استبعاد الخطأ في التقدير من جانب الحكومة، ويدفعنا إلى إساءة الظن بها. بحيث يقنعنا بأننا بإزاء سياسة وحقبة جديدتين.
وذلك مصدر الخوف الأول الذي يتعين علينا أن نستشعره.
وإذا أردنا أن نكون أكثر صراحة ودقة فلعلنا نقول إنه يبعث على الخوف على ثورة يناير ذاتها التي دفع الشعب المصري ثمنا باهظا لها. وكتب شهادة ميلادها ووثيقة إشهارها بدماء أبنائه.
هذا الكلام ليس من عندي، ولكنه خلاصة لما انتهت إليه الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
وهي التي أصدرت في 27 أكتوبر الماضي تقريرا تفصيليا تحت عنوان:
العدالة في 100 يوم من حكم الرئيس القاضي ـ قوانين جائرة وكيل بمكيالين.
ومما ذكره التقرير أن تلك الفترة شهدت العديد من مشاريع القوانين التي تهدر الحريات،
والعديد من القرارات التي تعصف بأسس المحاكمات العادلة، كما شهدت ممارسات بوليسية شبه يومية تذكر بماضٍ بغيض.
في شأن التشريعات الجائرة والقرارات المعادية للحريات خص التقرير بالذكر ما يلي:
< تمديد فترة الحبس الاحتياطي، بحيث عدل نص قانون الإجراءات الجنائية الذي كان يقضي بألا تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي في مرحلة النقض للمحكوم عليهم بالإعدام أو بالسجن المؤيد مدة سنتين
(وهو النص الذي استفاد منه الرئيس الأسبق حسني مبارك)،
وقد أجاز التعديل للقضاء أن يأمر بحبس أي متهم احتياطيا لمدة 45 يوما قابلة للتجديد..
ومقتضى ذلك أن يتحول الحبس الاحتياطي إلى سلاح يعرض أي متهم للسجن لفترات طويلة دون أن تثبت إدانته أو تورطه في الجرم الذي يحاسب بسببه.
< قانون مكافحة الإرهاب الذي سبقت الإشارة إليه، وقد اعتبره التقرير «ردة غير مسبوقة على مكتسبات الثورة المصرية»، توضح نية الدولة الجديدة تكميم الأفواه، واستخدام «الإرهاب» كغطاء ومبرر لإعادة الدولة البوليسية.
< قانون منع التظاهر الذي نص على كفالة حق التظاهر السلمي، «إلا أنه وضع العديد من القيود والضوابط التي تفرض ذلك الحق، خلافا للمعايير الدولية المستقرة التي تحميه».
ذلك أنه منح قوات الأمن حق فض التظاهرات السلمية والقبض على المتظاهرين،
وأتاح لها استخدام الشدة في عملية الفض،
وأعطى للداخلية حق رفض التظاهرات السلمية،
وفي حالة القبول فلها تحديد مواعيد زمنية لبدء وانتهاء المظاهرة، الأمر الذي ينذر بمنع جميع المظاهرات.. إلخ.
< قانون الطوارئ الذي جرى تمديده لمدة شهرين بعد محاولة اغتيال وزير الداخلية الحالي.
وهذا المد تنتهي مدته هذا الأسبوع (في 14/11)، وكان ولا يزال ضمن أدوات الحل الأمني للأزمات السياسية، التي لم تفلح في القضاء على الإرهاب مدة أكثر من ثلاثين عاما.
< قرار الضبطية القضائية لعدد من العاملين بالمؤسسات الحكومية، وهو سلاح خطير يهدف إلى تكميم أفواه العاملين والتضييق على حقهم في المشاركة السياسية، فضلا عن أنه يفتح الباب للالتفاف على قرار القضاء بمنع تواجد الشرطة داخل الجامعات.
< قرار عقد المحاكمات وإجراء التحقيقات داخل السجون، الذي يعد اعتداء صارخا على استقلال القضاء وعلى حقوق المتهمين،
لأن من شأن ذلك اتخاذ تلك الإجراءات داخل أحد مقرات وزارة الداخلية التي هي الطرف الأساسي في القضايا السياسية المنظورة.
< قانون حماية الرموز الوطنية، الذي فهم أن المقصود به اتخاذ موقف إزاء الرافضين لتحية العلم، إلا أن البعض أراد به تحصين كبار المسؤولين في مواجهة النقد.
< مشروع قانون تجريم الكتابة على الجدران لوقف الحملات الاحتجاجية عن طريق الرسم أو العبارات المكتوبة، بحيث يعاقب الفاعل بالحبس 4 سنوات أو الغرامة التي تصل إلى 100 ألف جنيه.
ولكن الضجة التي أثيرت حوله دعت وزير التنمية الإدارية إلى التراجع عن فكرة استصدار قانون خاص لهذا الغرض واتجاهه إلى تضمين العقوبة وتغليظها في قانون البيئة.
(4)
الملاحظة الأساسية على كل تلك القوانين والقرارات أنها تصب في وعاء استقواء السلطة، من خلال تقييد الحريات العامة وتمكينها من تشديد قبضتها على المجتمع ومن حصار الناشطين وقمعهم.
الأمر الذي ينبهنا إلى أننا نجد فيها أصداء لنظام مبارك ووزير داخليته وحبيب العادلي بأكثر مما فيها من استحقاقات ثورة 25 يناير.
حتى أكاد ألمح فيها إرهاصات زحف الثورة المضادة التي أصبح بعض رموزها يطلون علينا من منابر عدة هذه الأيام.
وهو ظن أتمنى أن تثبت الأيام خطأه. وما لم يحدث ذلك، فإن خوفنا على الحاضر والمستقبل سيظل مشروعا واستنفارنا لأجل الدفاع عن حلمنا المهدد سيظل مطلوبا، حتى أزعم أنه واجب الوقت بامتياز.
هذا عن كابوس الدولة الأمنية الذي بات يلوح في فضائنا.
ولعلك تذكر أنني قلت في الأسطر الأولى إنه أحد همَّين يدعواننا إلى الخوف والقلق.
بقي الهم الثاني المتمثل في الهيستيريا الجماهيرية التي تهلل للحاصل وتحتفي به.
وهو ما يستحق منا وقفة خاصة في الأسبوع المقبل بإذن الله.