شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

الخطوط الحمراء ـ عزة مختار

الخطوط الحمراء ـ عزة مختار
  لم تكن من بين اهتماماتى اليومية مسألة...
 
لم تكن من بين اهتماماتى اليومية مسألة الانشغال بما يدور حولى من أحداث يومية، سواء كانت تلك الأحداث تخص الشأن العام أو حتى الخاص.

كل ما همنى فى الحياة كان لا يتعدى غرفتى الخاصة، تلك الغرفة التى رسمت بداخلها طموحات لا حدود لها، طموحات تتسع لها الكرة الأرضية بأكملها لكنها مع ذلك سطحية لا تترك أثرا تتركه نملة تسير على الأرض.

لم يكن لى صديقات بالمعنى المعروف، ما يربطنى بالأخريات هو منافسة على المراكز الأولى فى الدراسة، أو منافسة على المظهر العام، هى صديقة واحدة، درجنا متجاورين، لم تكن لنا أى اهتمامات مشتركة غير الدراسة، كانت تأخذنى منها الغيرة فى كثير من الأحيان، وذلك للباقتها وحسن مظهرها وإجبارها الجميع على احترامها، لكن تلك الغيرة سرعان ما تجبرنى هى على تحويلها لمشاعر حب رغما عنى، أجدنى أسرع إليها فى وقت الحاجة ولا أفتح صدرى لغيرها، كل البنات تحذرنى أمى منهن إلا تلك الفتاة الخلوقة التى لا نتفق معها فى مظهر أو حتى جوهر، إنها الفتاة التى طالما أطلقنا عليها إرهابية فلا نجد منها سوى ابتسامة وحب ودفء وطلاقة وجه وروح لم نعهدها فى زماننا.

لم تكن مجرد جارة أو زميلة دراسة، أو مجرد صديقة عابرة، بل كانت روحا أهرع إليها كلما ضاق بى الأمر وعجزت أن أجد قلبا يضمنى وسط هجير الحياة، لم أكن آمن فى حياتى كلها إلا لتلك الإرهابية الحبيبة.

اليوم صباحا تلقيت اتصالا من إحدى الزميلات أنهم قرروا إضرابا عن الدراسة اليوم وذلك بسبب تعرض مجموعة من الزميلات فى الكليات المختلفة للاعتقال، وأنه قد حكم عليهن حكما مشددا لا لشيء إلا لاشتراكهن فى المسيرات المؤيدة لما يدعونه الشرعية، لم يشغلنى الأمر، مالى أنا والإضرابات والاعتصامات والمظاهرات، ثم ما الذى خرج بهن لتلك الفعاليات، إن ما يشغلنى أكثر هو الدراسة والحفاظ على تفوقي، أما هؤلاء فلهن شأن غير شأني.

فى محطة الانتظار اختلط غضب الذاهبين لعملهم من الموظفين والذاهبين لجامعاتهم ومدارسهم من تأخر الترام، بازدحام غير معتاد فى مثل هذا الوقت من اليوم فى الصباح الباكر, كان كل منهم فى كل لحظة يلملم حاجياته استعدادا لمجىء الترام الذى أزف موعده. ثم لا يأتى.

لست أدرى ما الذى يحدث، فلنتحمل قليلا حتى يتبين لنا الخبر ونعرف سبب عدم مرور أية حافلة من هذا الطريق وهو ما يحدث لأول مرة منذ وعيت على الخروج إلى المدرسة ثم إلى الجامعة ذهابا وإيابا كل يوم.

صحيح أننا اعتدنا الزحام، وتأخر المواصلات بلا داع، لكن ألا تأتى نهائيا فذلك هو الجديد، لم نتعود الشكوى، كل من أعرفهم يبتلعون شكاواهم داخل أجوافهم ويذهبون فى صمت ويعودون بنفس الصمت، حتى أنا لم يهمنى الأمر كثيرا ولم يثر لدى رغبة فى التغيير للأفضل، فقد تعلمت من والدى فى البيت، ومعلمى فى المدرسة أنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان، وأن الحكومة تبذل كل ما فى وسعها، وأن السبب فى الأزمة هو نحن المواطنين الجهلاء الذين ينجبون فوق طاقة الحكومة، فنتجت عنها مشكلة الانفجار السكانى مما نتج عنها عجزهم عن إطعام ذلك الشعب الكسول.

نعم يجب أن نلتمس ألف عذر لتلك الحكومة، رغم تكدس المشكلات، فلا أمن , ولا نظافة، ولا مواصلات، ولا شيء على الإطلاق، لكنهم يفعلون كل ما هو عليهم عمله. يكفى أنهم خلصوا مصر من حكم الإرهاب الفاشل الذى حكم مصر لمدة عام فأثبت فشله، صحيح أنه لم تحل تلك المشكلات بعد، ربما تكون قد تفاقمت وتضاعفت، لكنهم خلصونا من الإرهاب وأهله، فلماذا لا يهدأ هؤلاء الطلاب حتى تستطيع الحكومة أن تقدم شيئا؟ وصحيح أيضا أن حكومتهم لم تأخذ فرصتها كاملة كما يقولون، لكن لا يجب أن نشكك فى جيش مصر، فمهما حدث فهو الجيش الذى يحمينا ويحمى حدودنا ويحافظ على مدنية دولتنا.

ما تلك المهاترات التى تدور برأسى، مالى أنا والسياسة وأهلها، الجيش والمدنية؟ كيف يجتمعان؟ الجيش فى الشارع فكيف يحمى الحدود؟

الجيش من يقتل فكيف يكونون هم الإرهابيين؟، قتلوا منهم بالآلاف وأعرف منهم البعض، لكن يبقى السؤال: ما الذى ذهب بهم إلى هناك؟

الأمر محير لكنى لن أشغل بالى سوى بدراستى وتفوقي، سألتقى بصديقتى الحبيبة اليوم وألقى عليها بعض تلك التساؤلات إن كانت قد أتت، فبالتأكيد هى مع إضراب اليوم إن لم تكن من الداعيات إليه.

يا لهذا الملل، ماذا أفعل؟ هل أعود إلى البيت وأستثمر ذلك الوقت فى المذاكرة أفضل؟ سأصبر قليلا أطلع على بعض الأخبار فى صحف الصباح ربما يتضح الأمر فأعود أو أواصل الطريق للجامعة.

ولكن أى جريدة أختار، إننى لم أهتم يوما بتلك الصحف ولم تغرينى قراءتها، العناوين كلها حمراء

الخطوط كلها حمراء

الجيش خط أحمر

القانون خط أحمر

الشرطة خط أحمر

الاقتصاد خط أحمر

الشوارع خط أحمر

كل الخطوط حمراء، إلا الشعب لا ذكر له هنا.. ولا إرادة.

لم أسمع عبارة الشعب خط أحمر تلك إلا من صديقتي، كم أنا فى حاجة إليها الآن، تلك الهادئة بطباعها وابتسامتها وصبرها عليها.

كم قالت لى: "إرادة الشعب خط أحمر، يجب أن نموت دونها" يا لتلك المسكينة، يبدو أنها لم تطلع على تلك الصحف أبدا وتلك العناوين الحمراء التى تحذر وتبشر بمستقبل مشرق، بل تتحدث عن الإنجازات غير المسبوقة، والتقدم الكبير والجهد غير العادى التى تقوم به الحكومة فى سبيل رفاهية المواطن البسيط.

بعض الناس ازداد قلقه وفكر فى أن يترك المحطة عائدا من حيث أتى، انصرف البعض وبقى البعض ليتساءل ويعرف، بينما أتى الكثيرون فى أجوافهم ملايين التساؤلات، يحجبها الصمت والخوف والترقب.

بينما الجميع كذلك جاء صوت سيارات هادر، من بعيد يقترب الصوت شيئا فشيئا بينما يقترب الجميع من قارعة الطريق حتى كادت الأرجل تختلط من شدة التزاحم، كل منهم يكاد يقتله فضوله لمعرفة السر. يقترب صوت السيارات أكثر. بينما يستمع الجميع لأصوات هتافات قادمة من بعيد مختلطة بصوتها. لا أحد يستطيع أن يعرف أهى قادمة مع السيارة القادمة أم هى من مكان قريب من المحطة.

يزداد الجميع ترقبا وانتباها، يقترب الصوت أكثر، وتتضح الهتافات أكثر وأكثر وقد ظهر الآن أن مصدرها السيارة القادمة، إنها تلك السيارة التى يطلقون عليها ترحيلات، تصحبها مجموعة من المدرعات وسيارات الشرطة المعتادة، إنهم يهتفون بصوت هادر: "الله أكبر ولله الحمد الله غايتنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا" "يسقط يسقط حكم العسكر".

اقتربت السيارة وقد خرجت من نوافذها أياد ملوحة بعلامة "رابعة".

رابعة التى طالما اتهمت من ذهبوا إليها بالتفاهة والسطحية والإرهاب، أياد صغيرة تلوح ووجوه بريئة مبتسمة تطل بثقة وبنفس الابتسامة الوضيئة التى اعتدتها دوما، إنها صديقتى الحبيبة تطل من بين حديد النافذة الصغيرة، بكل ثقتها، وبكل حبها، وبكل اطمئنانها.

 اختلطت دهشة الحضور بدموع بعض الأمهات اللاتى كن ينتظرن على الأرصفة ولم يشعر بهن أحد بأنين بعض من تعبوا من طول الوقوف، بصوت واهن لرجل هرم قائلا: "مساكين، بنات زى الورد.. خسارة والله يتحكم عليهم بالحكم ده".

اختلطت الأصوات بالهتافات بالتعليقات عندما علموا أن هذه السيارة متوجهة إلى أحد السجون بعد الحكم عليهن بأحد عشر عاما جزاء حملهن "بالونة صفراء". إنها صديقتى من بينهن، حبست الغالية فى جريمة "حمل بالونة".

بعد دقائق معدودة، خلت المحطة من كل روادها، منهم من انصرف بغضبه الصامت، ومنهم من حمله غضبه إلى أن يخرج صوته بالشكوى ومنهم من تحول للصياح هاتفا: "يسقط يسقط حكم العسكر، فيتبعه الكثيرون وينصرفوا، فى أى اتجاه لست أدرى..

الآن لم يعد هناك وقت للتفكير أو الاختيار، أين سأذهب، فى أى اتجاه سأسير؟

اليوم هو أول يوم إضراب لى عن الدراسة ولن أعود حتى أعلم من صديقتى كل أجوبة التساؤلات التى حيرتنى، ولتسقط كل الخطوط الحمراء.

 


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023