تسللت خيوط رقيقة من النور لتشق ظلام الليل وتداعب وجوه المعتصمين وتنعكس على الخيام التي امتدت لمسافات طويلة في ميدان رابعة العدوية بينما شفاههم تلهج بالذكر والدعوات بعد أنباء عن تحرك أعداد وآليات غفيرة نحوهم منذ الفجر، كان المشهد مبهرا.. يشعر من يرى الميدان أنه وسط اعتكاف، لا اعتصام.
ربما لم يكن أحد من المعتصمين أنفسهم يدري أن خيوط النهار التي تحاول جاهدة إزاحة الليل الثقيل، سرعان ما ستختفي مجددا وتتراجع أمام كثافة الدخان المنبعث من قنابل الغاز وحرائق الخيام، وغبار الجرافات، ليحل الليل من جديد في نهاية اليوم على مأساة لم يسطرها التاريخ إلا بين غزاة أو محتلين، لا بين جيش وشعبه.
ورغم مرور 8 أشهر على مجزرة رابعة العدوية، فإن أحدا لم يقدم للمحاسبة أو المحاكمة من المشاركين أو القيادات التي أعطت الأوامر لمجزرة ميداني رابعة العدوية والنهضة، رغم سقوط نحو ألف قتيل وفقا لتقديرات رسمية (عن رئيس الوزراء حازم الببلاوي) أو أضعاف هذا العدد وفقا لتقديرات أخرى متباينة.
ومنذ الرابعة فجر يوم 14أ غسطس 2013 تواردت أنباء عن تحركات كبيرة لقوات الأمن في اتجاه مكاني التجمع بالميدانين (رابعة العدوية – النهضة)، وتوافدت رسائل التحذير وأعلنت المنصة عن ذلك وتم تخيير الموجودين بين المغادرة أو البقاء، فقرر المعتصمون التشبث بحقهم في التعبير السلمي عن الرأي.
ربما لم يكن الميدان يجيش بهذا القدر من التضرع والروحانيات بعد تواتر تلك الأنباء أن يمر اليوم بخير، وأن تُحقن دماء المصريين.
على بوابات الدخول وفي المستشفى الميداني بجوار المسجد، حالة من الاستنفار والاستعداد لا تخطئها العين؛ فعلى البوابات شباب اعتمر خوذات لعلها تحميه من زخات الخرطوش دون أن يدري أن رصاصات القناصة لا تصدها خوذة بلاستيكية، وأمسك عصا يرجو بها دفع هجوم البلطجية الذين عادة ما يصاحبون الهجوم دون أن يعرف أن مجنزرات ومدرعات وجرافات ستمضي من هنا غير آبهة بمن قد تدهسه تحت جنازيرها، حيا كان في الدنيا أو عند ربه يرزق في جنات النعيم.
أما في المستشفى الميداني فقد بدأت حالة الطوارئ في كلا التجمعين وبدأت طلقات الرصاص تنطلق كالسيل الجارف نحو الموجودين، وتهيأ الأطباء لاستقبال الإصابات، وأعطى منسق المستشفى التعليمات واضحة لتنظيم العمل.
في السابعة تماما دخلت الإصابة الأولى إلى المستشفى الميداني برابعة وكانت طلقا ناريا في الصدر يلفظ أنفاسه.. الإصابة الثانية طلق ناري في الرأس أخرج جزءا من المخ إلى خارج الرأس نادى الطبيب المسئول هنا.. الإصابة الثالثة المخ بكامله في يد أحد من يحملون المريض هذا شهيد ارتقى.
ثم توالت الإصابات منهمرة كسيل من الدماء لا يتوقف، أغلبها إصابات في الرأس والصدر، انقطعت الكهرباء و بدأ العمل بالمولد الاحتياطي إصابات الأطراف كانوا يعتبرونها حالات عادية حروق الدرجة الثانية بسيطة؛ فالموازين هنا مختلفة، فلا اعتبار بمقاييس المستشفيات بل بمقاييس المذابح والحروب.
الساعة العاشرة تقريبا بدأ إطلاق الرصاص على المستشفى وأصيب بعض الأطباء وأخذوا أمر الإخلاء: "اترك ما في يديك اترك كل ما يدل على أنك طبيب في المستشفى الميداني".. كان الأمر بالانسحاب من المستشفى فورا؛ لم يعترض أحد بشكل علني، ولكن كثيرا من الأطباء (شبابا وكبارا) لم ينفذوا أمر الإخلاء؛ آملين في إنقاذ وإسعاف المصابين، ولم يدر ببالهم ربما حينها أنهم أنفسهم لن يجدوا مسعفا أو طبيبا بعد أن يستهدف مستشفاهم الميداني دون مراعاة لأدنى مشاعر الإنسانية.
المركز الإعلامي لم يكن بعيدا عن المستشفى.. غير أنه كان أسوأ حالا بكثير، فالدماء تغطي الأرض والجدران، وأجساد الشهداء والمصابين تتناثر في الأرضية، بينما لا عدد يكفي من الأصحاء لإنقاذهم.
ما بين المباني المتجاورة داخل مجمع رابعة العدوية، أزقة يتحرك فيها الثوار بسرعة، يحملون مصابين، ويسعون لردع هجوم بربري، غير أن تلك الأزقة التي تفوح منها أبخرة قنابل الغازات تستقبل بين كل بضعة دقائق شهيدا يتم قنصه من الثوار الذين يتحركون خلالها.
منتصف اليوم شهد انفراجة نسبية، ضغط الثوار المتوافدون من خارج الميدان على القوات المحاصرة، وانتفض من بداخل الميدان، فتراجعت القوات قليلا أمام الحجارة والصمود البشري طيبة مول، وعاد المستشفى الميداني إلى العمل مع تغيير بعض الأفراد.
غير أن تلك الانفراجة لم تدم طويلا أمام زحف المدرعات واستخدام القناصة والطائرات، ومع منع سيارات الإسعاف من نقل الحالات لساعات طويلة، بدأ نقل كل المصابين إلى مركز رابعة الطبي لعلهم ينقذون بعضا من المصابين الذين بدأوا لا يجدون معدات طبية كافية.
مركز رابعة العدوية الطبي سجل في طوابقه الستة المأساة أعظم؛ فالأدوار الستة امتلأت بالأطباء والمصابين والشهداء؛ كل من ليس موجودا في المستشفى الميداني هو بالفعل في مركز رابعة.
في المركز الطبي تم تصنيف الحالات؛ إصابات العين في الطابق الأول؛ إصابات الرصاص في الصدر والرأس في الطابق الخامس؛ إصابات العظام الشديدة في السادس؛ إصابات الرصاص الحي الخطيرة في البطن أو الأطراف في الطابقين الثاني والرابع، ولا مكان هنا لإصابات الخرطوش والغاز والكسور التي لا تعجز الحركة هذه نعمة تحسد عليها في هذا اليوم!.
بعد العصر، بدأ القصف على المستشفى وضرب الغاز، ثم بدأ إخلاء المستشفى من الموجودين وسط إطلاق الغاز والرصاص الحي على المستشفى!.
وأمام إجباء الأطباء على الإخلاء تحت تهديد السلاح معتقلين أو مصابين وشهداء، تركوا خلفهم مصابين يلفظون أنفاسهم، وتصاعدت ألسنة اللهب من كل بقعة في الميدان بما فيها المسجد والمستشفى في تمام السابعة مساء.
بعد الإخلاء خيم الظلام على الميدان الذي كان يضج بالحركة والقيام وتلاوة القرآن، ومر يوم جديد وراء يوم، دون أن يرى أهالي الشهداء حسابا أو عدالة تجاه من قتل أو أحرق أبناءهم أو أزواجهم وإخوانهم وآباءهم.. وبعد 8 أشهر كاملة في مجزرة فض ميداني رابعة العدوية والنهضة، لا تزال المذبحة بلا حساب.