كثيرة هي العقبات والعقابيل التي تعترض مسارات النهضة والتغيير في عالمنا العربي، ولو أردنا سردها لوقفنا على قواميس كاملة من المصطلحات والمفاهيم التي يجب علينا أن نقف عندها مطولاً في سبيل إعادة صياغة العقل العربي بصورة منهجية تراكمية.
القراءات التحليلية للواقع لا تتعدى كونها فسلفة قائمة على النقد إيجابا وسلباً ، ولكننا اليوم بحاجة إلى نظرة فلسفية أكثر عمقاً في التحليل ، ولديها من الجرأة على النقد العلمي الواعي ما يجعلها على قائمة الأولويات القصوى لدى المجموع النخبوي في العالم العربي.
إعلامنا اليوم ، محاكاة وسيناريوهات ترسمها العقول المتحكمة بمؤسسات الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ، ومن يملك المال يملك النفوذ والسلطة والقرار كما يقال ، وهذا ما أدى إلى تفريغ الواقع الإعلامي العربي الرسمي من المضامين الكلية الجامعة التي يمكن التعويل عليها في تحليل الشخصية المراد تشكيلها من خلال البرامج التلفزيونية والخطاب الإعلامي العام .
المفكرون الغربيون ومراكز الدراسات البحثية والتفكير النوعي في الولايات المتحدة وأوروبا تنشغل جديّاً في بناء الرؤية والرسالة لكل الخطاب الجمعي ، وينشغل الباحثون العاملون فيها على المستوى الأكاديمي والمؤسسي بوضع استراتيجيات إعلامية فاعلة ومؤثرة تشكل الوعي الفردي والجمعي ، وتربط مؤسسات الإعلام الرسمي وغير الرسمي بسياساتها حتى لا يحدث التضارب الفلسفي والمفاهيمي بين ما تطرحه هذه القنوات للعامة .
مجال بحثي تخصصي آخر، وله من الأهمية مكانة قصوى، وهو مجال دراسة البرامج المقروءة والمسموعة والمرئية في الفضائيات ومدى ملاءمتها لإنسان المستقبل فعليا ً، من خلال التشديد على نمطية البرامج التلفزيونية والإذاعية، لتخدم مجالات الحياة المنوعة، والتي لا بد فيها من علم الاجتماع وبناء التصورات التكنولوجية والمعرفية وربط الإنسان بمجريات الواقع والتعريف بمجالات الفنون والأدب والتشجيع على العادات الإيجابية كالمطالعة والرحلات العائلية ونحوها.
اهتمام بالغ إذا يبدأ من مناهج التعليم في رياض الأطفال التي ينفق على تطويرها وتحديثها سنوياً في الولايات المتحدة لوحدها ملايين الدولارات ، وتمتد على مراحل التعليم الأساسي والكتاب المدرسي والمناهج الأكاديمية لطلبة الجامعات لتشكيل شخصية يرى الغرب أنها ستكون في صدارة المشهد في القرن الواحد والعشرين.
أين نحن من هذا كله ؟ ألا يحق لنا هنا أن نتساءل عن واقعنا كأمة أسست للحضارة مناهجها ومعارفها الكلية الجامعة؟
لو قارنا ما ينفق من المال والجهد على البحث العلمي في الغرب مع ما ينفق من المال على البحث العلمي التخصصي الهادف في عالمنا العربي لاشتعلت رؤوسنا شيباً.
ولو دققنا النظر في ما تنفقه الحكومات تحت مسميات البحث العلمي والتطوير المعرفي لوجدنا الواسطة والمحسوبية والمنافع الفردية تتجلى بأعلى مستوياتها في هذا المجال الذي يعتبر من أخطر مجالات الحياة لعلاقته بواقع الإنسان والدولة على حد سواء.
فقر مدقع في المعرفة النظرية الهادفة والتراكمية، وجهل مستشرٍ في واقع الإعلام الذي يفخر بصناعة التقنيات والفنون البصرية وتلوين الخطاب للناس دون قيم شمولية بناءة، وعدم اكتراث – إن لم نقل تقصّد سياسي على أعلى المستويات – لإشغال العامة بقضايا العيش اليومي حتى لا يلتفتوا إلى حقوقهم بالحرية الفكرية وكرامة العيش ومعنى الحياة العصرية.
وسط هذه التحديات والعقبات، ينشأ جيل شاب جديد، جيل عاصر متغيرات الواقع العربي وثوراته، جيل تحصّل على المعرفة في مجالات الحياة الجامعية، ووجد البَون والفرق شاسعاً بين القيم النظرية التي تلقاها في الجامعات وبين الواقع الذي يعيشه، فبات يشق طريقه ليصنع رؤيته ورسالته ولو بالقليل مما يملكه الأفراد في ظل انشغال صناع القرار – بكل أسف – بما هو أهم من الإنسان، ألا وهو كرسي الرئاسة والمنصب.
مؤسسات الدراسات والأبحاث، المؤسسات الثقافية النوعية، مؤسسات العقول الشبابية، مجاميع خريجي الجامعات، النقابات الأدبية والمعرفية ، بيوت ومؤسسات الإعلاميين الشباب، كل هذه ونظائرها تعتبر نقطة انطلاق حقيقية نحو مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً.
على مثل هؤلاء تبنى الآمال، وعلى أمثالهم تعقد الأحلام ، فهم رسل التغيير الحقيقي، والمؤسسات الشبابية التي بتنا نسمع عن ميلادها في السنوات الأخيرة تمثل بارقة أمل حقيقية في التغيير الجذري في توجهات المجتمع والشباب والقائمين على العمل المؤسسي.
وعلى مثل هؤلاء تبنى آمال عراض في مجال بناء الوعي القيمي والمفاهيمي، وعي يمكن للنخب الإعلامية والمؤسساتية والشبابية أن تتكئ عليه في التوجه نحو الغد، الغد الذي يحلم به الكل العربي اليوم، ولعلنا نشهد الآن أو في غدنا القريب إعلاميين ناضجين منطقيين، ومؤسسات إعلامية تصوغ الفكر والتوجه بصورة رشيدة منهجية تراكمية.