لا شك أن القيام بمراجعات دورية بغية التقييم والتقويم أمر لازم لأي مجموعة فكرية أو سياسية أو اجتماعية، لاسيما بعد منعطفات أو أحداث مهمة، خاصة إذا كانت هذه المجموعات في قلب الحدث وساهمت في صياغته، نجاحاً أو فشلاً.
ذلك أن عملية المراجعة تتيح فرصة النظرة الموضوعية، البعيدة عن تأثيرات الحدث الآنية وضغوط التفاصيل، بما يكشف عن نقاط القوة والضعف، التي ينبني عليها صياغة إستراتيجية التخطيط والعمل للفترة اللاحقة، وبدونها يبقى الفعل في حدود الارتجال والعاطفة، الأمر الذي يقلل من فرص النجاح.
بعد الثلاثين من حزيران/يونيو 2013 وما تلاها من أحداث حتى اليوم، وجهت لجماعة الإخوان المسلمين الكثير من الاتهامات، وتعرضت لكثير من النقد، من أبنائها قبل خصومها، ومن محبيها قبل كارهيها. وبغض النظر عن مدى صحة ومصداقية ودقة ما وجه من نقد أو اتهامات، إلا أن المتفق والمجمَع عليه هو ضرورة مراجعة الفترة السابقة وطريقة إدارتها بما شابها من نجاحات وإخفاقات، وما انطوت عليه من توفيق وإهمال.
برزت في الآونة الأخيرة أصوات أغلبها من داخل الجماعة، من شبابها على وجه التحديد، تدعو قيادتها للاستفادة من تجربة حركة حماس (إخوانية الفكر) في قطاع غزة تحت تأثير إنجازاتها الأخيرة في حرب العصف المأكول. وقد انقسم هذا الفريق إلى رأيين: الأول يدعو إلى حمل السلاح مستدلاً بقوة حماس على الأرض والتي فرضت احترامها على الجميع، والثاني يدعو إلى الاستفادة من طريقة الإدارة واتخاذ القرار والمحاسبة لدى حماس.
والحقيقة، أن الرأي الأول ينطوي على أخطاء منهجية لا يستهان بها، لعل أهمها:
الأول، إغفال الفروق الكبيرة بين الحالتين: حالة حركة مقاومة في وجه محتل أجنبي، وحالة حركة وطنية في وجه خصم/عدو داخلي، ليس فقط من باب المظلومية المتوفرة في الحالتين لكن أيضاً لناحية توصيف الصراع وأدواته ومآلاته، وهذه جزئية جد مهمة.
الثاني، افتراض أن حمل السلاح في مصر في وجه النظام الانقلاب سيفيد أو يسعد الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو افتراض لا يقوم على أي دعائم منطقية أو واقعية، اللهم إلا حماسة العاطفة التي لا تغني عن التفكير والتخطيط والتبصر شيئاً.
الثالث، إغفال السياق الزمني في تجربة حماس واهتبال اللحظة الآنية للتقييم بشكل حصري. ذلك أن حماس (إخوان فلسطين) أجلت العمل العسكري ضد الاحتلال لسنوات طويلة، كما أنها لم تلجأ لحمل السلاح في حسم أي نزاع داخلي رغم ما تعرضت له على يد السلطة، إلا في مرحلة متأخرة وبشكل محدود جداً تحت وطأة الاضطرار، حين كانت على رأس حكومة في وجه حركة دحلان الانقلابية (حركة فتح والسلطة اعترفتا مؤخراً بذلك).
الرابع والأهم، هو التقييم على أساس النتائج الآنية لا النهج الثابت، والتأثر بمخرجات القرارات السياسية المختلفة لا السياقات التي أنتجتها. ذلك أن الكثيرين ممن يمتدحون أداء حماس/القسام الحالي كانوا ممن عابوا عليها قبولها المصالحة مع السلطة/فتح، والكثيرين ممن يتغنون بقوة حماس اليوم كانوا قد اعتبروا مصالحتها ضعفاً. تماماً نظر الكثيرون – مع الانتخابات التي تلت الربيع العربي – لاندثار مشروع القاعدة وتهاويه أمام حركات "الإسلام السياسي" ومنهجها السلمي، فيما عادوا لمهاجمة هذا النهج بعد الانقلاب في مصر تحديداً، رافعين من قدر ومكانة منهج القاعدة (النصر-داعش-الجهاديين). والحق أن الإنسان كائن يؤثر ويتأثر، ولطالما كانت إحدى جدليات علم الاجتماع هو تأثر الفكر بالسلوك وتأثر السوك بالفكر، ولئن كان من المقبول وجود مستوى معين من التأثر فلا ينبغي بحال أن ينساق الفكر تماماً وراء الأحداث والنتائج الآنية إذ هي متغيرة متضاربة، بينما يفترض به أن يكون أكثر تماسكاًَ وثباتاً رغم مرونته النسبية.
ولئن سلمنا أن المقاربة الثانية (الاستفادة من طريقة إدارة حماس وآليات اتخاذ القرار فيها) أسلم وتقوم على أرضية أكثر تماسكاً، إلا أنها – مجدداً – لا تخلو من مفارقات أو أخطاء منهجية، منها:
الأول، أنها ترى حماس – في تقييمها – شيئاً واحداً، فلا تفرق بين حماس غزة وحماس الضفة وحماس الشتات، وهذا يشير إلى استدلال انتقائي. ذلك أن المشهد الحالي يظهر تأخراً لحماس الضفة عن زخم الأحداث اليوم (بغض النظر عن أسباب ذلك)، الأمر الذي يعرض قادتها وأبناءها لانتقادات حادة بين الحين والآخر. فلم تم الاستدلال بحماس غزة وليس حماس الضفة، فضلاً عن الشتات، إذا كان المطلوب هو تشبه قيادة الإخوان بحماس كحركة إسلامية؟.
الثاني، أن هذه المقاربة تسحب العسكري على السياسي، فالإنجازات الكبيرة وغير المتوقعة التي عايشناها في الأيام القليلة الفائتة تكاد تنحصر في كتائب القسام الجناح العسكري لحماس، وكثير من تفاصيل المشهد مختصة حصراً بآليات وأدوات الحرب تحديداً (ميدانياً وإعلامياً، إعداداً وتنفيذاً)، بينما يسحبه الكثيرون على حماس كقيادة سياسية ويطالبون قياداتهم بالاقتداء بها.
الثالث، أن معظم من طالبوا قياداتهم بالتشبه بقيادة حماس أو آلية اتخاذ القرار فيها غير مطلعين فعلاً على إدارة حماس وهيكيها التنظيمي وآلية اتخاذ القرار فيها، لكنهم ربما مبهورون بما يظهر لهم من أداء حماس (القسام تحديداً). وتجدر الإشارة أن حماس – شأنها شأن كل المكونات السياسية – لها وعليها في ساحة الفعل السياسي، وليس كل منتسبيها بالضرورة سعيدين بكل قراراتها السياسية، ظهر ذلك في الإعلام أم خفي.
الرابع، يبدو أنه قد خفي على بعض المنتقدين أن أحد أهم أسباب التغير المستمر في قيادة حماس وتقديم الشباب فيها هو استنزاف العدو لها بشكل مستمر عبر الاغتيالات والاعتقالات، وبالتالي يصبح والأمر كذلك الاستشهاد بحالة حماس فيما خص أعمار قياداتها وتبدلهم بعيداً نوعاً ما عن الدقة.
من جهة أخرى، لا ترقى سياقات ردود الرافضين لهذه المقاربات لأي درجة من درجات المنطق، رغم صحة بعضها. فمقولة "كيفما تكونوا يولَّ عليكم" صحيحة في إطار ما، ويستشهد بها في سياقات مختلفة، لكن ذلك لا يعني أن سبب الفشل هو القاعدة أو الأتباع، إذ أن القيادة وحدها تتحمل مسؤولية القرارت المتخذة، وهي وحدها المناط بها اجتراج آليات المتابعة والمحاسبة والتطوير والتغيير، سيما في ظل أنباء متواترة عن تحييد الشباب والقاعدة عن أطر اتخاذ القرار.
كما أن مقولة "كيف نعيد ترتيب أوراقنا ونحن تحت الضغط" تتهاوى أمام التاريخ والواقع، فما عرف تاريخ الإخوان فترات رفاهية وحرية كاملة حتى ينتظروها لترتيب هياكلهم وأطرهم القيادية، بل نظموا انتخاباتهم الداخلية وفعـّلوا مؤسساتهم الشورية في أعتى الظروف. فضلاً عن أن حماس، التي يستشهد بها الشباب، تنظم انتخاباتها في الضفة الغربية بطريقة أو بأخرى، ولن يعدم الإخوان الوسيلة إن اتخذوا القرار.
لكن الكارثة الكبيرة والمعضلة الأصعب هي نفي وجود أخطاء بشكل مبدئي واعتبار ما حصل ويحصل حتى الآن محض ابتلاء، يستوجب الصبر والصمود والاستمرار على نفس الطريق. وبديهي أن هذه الرؤية لا تفضي إلى شيء، بينما تستوجب رؤية الأخطاء البشرية التي تتسبب في الابتلاء (كما أن اتخاذ الأسباب يؤدي إلى النصر) مراجعة هذه الأخطاء وتلافيها و"تغيير" أساليب العمل حتى يتم النصر ويتحقق النجاح.
هما إذاً طريقان متضادان، أحدهما يقول لقد أخطأنا ويجب أن نغير من أنفسنا، والثاني يقول هو ابتلاء فاصبروا واستمروا على ما أنتم عليه. الأول يقول إن الاستمرار بنفس عقلية وأدوات وأشخاص الفشل سيؤدي إلى الفشل مرة أخرى، بينما يقول الثاني إنها معركة وإن النصر صبر ساعة. بينما أبجديات علم الإدارة تقول أن المتابعة والمحاسبة مبادئ أصيلة وأسباب مهمة في عملية النجاح، وأن تطبيق آليات التغيير والتطوير "ألف باء" واضحة لا تحتاج للاستشهاد بجهد الآخرين. وحقائق التاريخ والواقع تصدح قائلة: لن يزول الانقلاب، ولن تنتصر الثورة، إلا إذا غيّر الثائرون من أنفسهم وأساليبهم وطريقة تفكيرهم واتخاذ القرارات وتنفيذها، وفعــّلوا آليات المتابعة والرقابة والمحاسبة والتغيير، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما "بأنفسهم".
المصدر: رصد