في مساء صيفي خرجت من سجن العقرب “ليلة الثامن عشر من يونيو الماضي”، ابتهجت وابتهج الناس وكان المساء مفعمًا بالفرحة للكثيرين، وربما لا أقدر إحصاءهم. علمت حينها أن حياتي قد تغيرت للمرة الثانية، بعد أن تغيرت حين رميت وراء الأسوار قبلها بخمسة وأربعين أسبوعًا.
نلت حقي وحظي في الحياة، داخل السجن وخارجه، وكان ورائي من بعد الله شبكة إعلامية رمت بثقلها لكي أنزع حريتي من السجان، وقرأت حين خرجت كمًّا كبيرًا من كلام الناس على الإنترنت وسمعته منهم في كل ناحية رحت لها؛ في القاهرة وفي الدوحة ونيروبيه وفيينا وإسطنبول ونيويورك وواشنطن.
وسافرت ورأيت وعرفت وفهمت وعلمت أن الله حق، وأنني من النصف في المائة ممن يحظون الحظ أكثر من مرة في هذه الحياة الدنيا. لكن أمرًا ظل يؤرقني وينغص أيامي وأوقاتي.
نسي الناس لأن طبع الحياة يجلب على النسيان، ولأن من يظن أن حالاً يدوم له سفيه أو مغفل، فَلَو دامت لغيره ما وصلت إليه.
ما نسيت وجوه شوكان وطه وإلهامي والصفتي والفخراني والعادلي وسامحي ويوسف وعمرو زهران – سامحني إن أطلت واستفضت في ذكر الأسماء فليس لي ولهم سوى ذلك- ولا غابت عني ابتسامة سعيد العراقي ولا حمادة يوسف وحسن صقر ومسعد الحوفي وأحمد العصفوري.
لا أرض عنبر ٣/٧ في ليمان ٢ “أبو زعبل” وأعضائه الستة وثمانين وصلوات الجماعة فيه تنفك حاضرة في بالي، ولا كل غرفة في عنبر “د” باستقبال طرة، هؤلاء ممن تركناهم هناك يموتون ببطء بينما تدور الحياة بِنَا في الخارج، وتدور سريعًا.
تحدثني عن العدل؟ عن الفرج؟ صدقني ليس الكلام قادرًا على فعل شيء فينا سوى مزيد من الحزن والاكتئاب. عبارات نرددها لهم في لحظة سريعة ثم نعود لمسار حياتنا. وأي عدل يرتجى من قاض يطيل في الجلسات ليوهمك بأنه منصف ويستمع لك ويطيل في الخداع ليس إلا لكي يتحصل على – بدل جلسات – ويكون الحال كل شهر ونصف كما سبقه. ولأننا لا ننسى ولا ينسى أحد من معتقلي القضية ١٥٨٩٩ ومن سواهم – من كل مجموعة اتهامات ملفقة سميت قضية- أسماء ولا أشكال كل فرد وضعهم خلف القضبان – بدءًا من أصغر شاويش وانتهاءً بأكبر رئيس محكمة.
أعلم أن شوكان سيخرج يومًا ما إلى بيته يجمع أغراضه موليًا وجهه ناحية جورجيا، ومن ثم إيطاليا ويُغلق باب مصر وراءه، وسيودي إلهامي وجهه إلى الخطاطبة للقاء ياسين وأخيه وأمه ويمضي أيامًا طويلة معهم. سيقوم طه بالرجوع إلى شرنوب لكي يجلس جوار والدته يستزيد من حنانها الذي حرم منه، ويتمنى ألا يجد حين يعود أحفادًا لوالدته كبروا ولم يرهم.
سيخرج الفخراني ليحلق من جديد بلا قيد يمنعه ويتزوج حب حياته، كما سيقوم سامحي بالجلوس طويلاً مع مصعب ويستزيد من النظر ليوسف متذكرًا كيف جاء إلى الحياة ولم يجده، أما العادلي فسينظر إلى الشمس في كبد السماء ويغمض عينيه متمتمًا بكلمات لأغنية بدوية، بينما يشد الرحال من جديد في مهنة الصحافة. وسيعود حسن صقر لبيته يقف على قبر ولديه يكفكف الدمع محسبنًا الله وحامدًا إياه على كل حال.
مرت على هؤلاء الناس أيام أسود من أي شيء، فاتهم عيد الأضحى مرتين وعيد الفطر مرتين، وجاء إلى الدنيا أطفال لهم، ورحل أحبة ومنهم، من لم يلق أسرته مرة واحدة لضيق ذات اليد منذ رمي خلف الأسوار، وآخرون فقدوا أعمالهم. وإذا سالت عنهم في نيابة أو محكمة قيل لك أن القضية تحت التحقيق!
ومسيرنا فى يوم هنتحاكم نيجى مظلوم وظالم وملايكة وربنا الحاكم، وهتترد المظالم كل اللي زرعته فى حياتك تجنيه قصاد الناس، ويشوف الكل مأساتك وأنا أبقى عالي الراس، لك يوم يا ظالم تندم على اللي كان.
وللحديث بقية..