في مقالات سابقة “أمن عدن .. التحديات والصعوبات” و “الجنوبيون .. إلى الكرامة ام الفوضى؟” تحدثت بشكل مطول عن العقبات التي ستقف عندها عملية الاصلاح السياسي والاقتصادي والأمني في الجنوب، كما تحدثت عن أبرز العراقيل التي ستعيق هذا التقدم، وستكون سببا مباشرا في تأجيل التنمية، بالإضافة إلى العديد من المنشورات في “الفيس بوك” و “تويتر”، والتي اشرت فيها إلى أن أهم هذه الصعوبات والعقبات تكمن بدرجة أساسية في الجانب الأمني، وذلك لما له من أثر مباشر على كل الجوانب الحياتية في البلاد.
اليوم وبعد أكثر من ستة اشهر على تحرير عدن والمحافظات المجاورة لها من المليشيات الحوفاشية لم نلمس أي تقدم -بالمدلول الحرفي للكلمة- في الجانب الأمني على الأرض، بل على النقيض شهدنا تهتكا عميقا في الاربطة الأمنية، انتجت فوضى منظمة كشفت عن حجم الارباك الذي يعصف بأمن هذه المحافظات، وأظهرت حجم الانحراف عن المسار الواجب الالتزام به، كما ظهر جليا غياب العمل الجماعي الذي يحقق التكامل مع المؤسسات الرسمية في تثبيت الامن واعادة الاستقرار والطمأنينة الى المدينة.
ستة أشهر وأكثر على التحرير إلا ان الجنوب ظهر أكثر تشظيا وتفككا، فلم يتمكن أبناء الجنوب إلى اليوم من إيجاد هدف موحد يعملوا من أجله، ولم يتمكنوا من ضبط بوصلتهم نحو وجهتهم الرئيسية المتمثلة في إعادة البناء وتحقيق التنمية؛ بالأصح لم يدرك الجنوبيين إلى اليوم ضرورة وأهمية العمل المشترك فيما بينهم كمجتمع واحد، ينبغي أن يكون له هدف واضح يسعى لتحقيقه، وهذا الغياب في التفكير الجمعي بالعمل الجماعي سوف يبقي الوضع كما هو عليه، بل سيساعد بطريقة او بأخرى في ترسيخ مفهوم “سلام الله على …”وسينتج حالة احباط حقيقية لدى الأغلبية ستؤدي إلى الرغبة في الانتقام من كل الشرفاء الذين ناضلوا من أجل الحرية والاستقلال.
الحقيقة المرة والتي يجب الاعتراف بها بعيدا عن العاطفة هي ان الجنوبيين الى اليوم عاجزين عن تحقيق أي تحسن جوهري يلامس حياتهم وحاجتهم بشكل مباشر، بل لم تخرج الامور عن الواقع الذي كنا نعيشه قبل طرد المليشيات الحوفاشية؛ باستثناء الجهود الاماراتية التي تشكر عليها.
أكثر من ستة أشهر وبلادنا كما قال نزار قباني ” لا تعرف إلى أين تذهب ومع من تذهب، ولا تعرف من تتزوج ومن تطلق، ولا تعرف إن كانت حاملا ام عاقرا، ولا تعرف على وجه التحديد إن كانت ذكراً ام أنثى، اصبحنا ضائعو الهوية ولا نريد أن ننتمي إلى احد ولا إلى شيء ولا حتى إلى أنفسنا، إننا وبكل أسف شعب المصادفات التاريخية، فبالمصادفة نحب وبالمصادفة نكره، وبالمصادفة نتحد وبالمصادفة ننفصل، وبالمصادفة ندخل الحروب وبالمصادفة نخرج منها، بل إننا بالمصادفة نولد وبالمصادفة نموت”.
حقيقة طبقناها بحذافيرها، فليس هناك أي عذر .. فكل المسئولين منا، ولا يوجد أي دخيل من أي بقعة من الكوكب، لهذا فان كل الحجج والمبررات التي كنا دائما نخلقها لنرضي غرورنا ونقتنع بتأخرنا قد انتهت، ومن هم في مواضع صناعة القرار ومواقع التغيير في محافظاتنا جنوبيين خُلَّص، فليس منهم مندس يعمل على إعاقة تقدمنا، وليس فيهم شاذ يسعى إلى إبقاء الوضع سيئا كما هو؛ بل إن غالبيتهم ينتمون إلى أهم فصيل سياسي في الجنوب “الحراك الجنوبي”، والذي طالما طالبنا أن تُسلم إليه مقاليد الامور في الجنوب لنحقق ما نطمح إليه من رخاء واستقرار وبناء.
إذاً .. ماهي مبررات بقاءنا على هذه الحالة السلبية، وجزء كبير ومهم مما كنا نطلبه قد أصبح حقيقة بأيدينا؟ لماذا إلى الان لم نستفيد من الدروس والعبر التي مررنا بها، ونعمل جميعنا على تحقيق ما كنا نرغب فيه؟ لماذا تبقى أعيننا مفتوحة، وأفواهنا فاغرة نبحث عمن يقدم لنا العون والدعم وحتى العمل؟ لماذا نحن مستعدون فقط للتراشق بالاتهامات والشتائم والتخوين لبعضنا، لماذا لا نطالب بمحاسبة المفسدين والفاسدين والمأجورين بشكل علني وصريح؟ لماذا مازلنا ننتظر وبشكل علني وبليد من الدولة والحكومة أن تقوم بكل شيء وتحقق كل ما نرجوه؟؟
إلا يعتبر عيبا في حقنا ونحن في نظر الاخرين الاغلبية المتعلمة والمثقفة، والأكثر انضباطا للقانون وانصياعا لأوامره، أن تتحول مدننا إلى أوكار للرعب، وتوابيت للموت، وتصبح مثالا في الفوضى والتسيب؟ اليس عار فاضح وخزي مقيم أن نكتف أيدينا ونحيد بأنفسنا جانبا عن كل مايدور ويحدث في مدننا وكأن الامر لا يعنينا؟؟
أي وربي إنه لعار، وخزي، وفضيحة كبرى، أن تتحول بلادنا إلى مربع عنف مغلق يعربد فيه الطغاة والمجرمين، وتصبح أيدينا ملوثة بعهر الجريمة المنظمة التي ينفذها المأجورين، بل إنه من المخزي أن نتحول الى ابواق في أيدي السفاحين والقتلة، ننقل الرعب والخوف وأخبار الموت؛ وارتضينا أن تحول فجأة إلى مجاميع من الجبناء الذين لا قيمة لهم ولا قدر؛ وأكوام من المنظرين والفلاسفة خلف الشاشات ومجالس النميمة، نخرب بلادنا بأيدينا، والتي طالما اتهمنا الاخرين بأنهم سبب خرابها وتدميرها؛ بينما اليوم وهي في أيدينا لا نجيد سوى الفلسفة، والتنظير، والتخوين، ونشر الأكاذيب.
ألا نخجل من أنفسنا قليلاً؟
يبقى جيداً لو علمنا أن الاحلام تبقى أحلاما طالما لم ننهض من اسرتنا ونغادر مواضع رقادنا، فلن تعطى لنا الحرية إلا بثمنها، ولن ننال العلو والرفعة إلا بالعمل الجاد المثمر الخالي من الانانية والبطر والتيه؛ واعلموا أن غيرنا لن يفكر في صلاحنا، ولن تُنزل لنا عناقيد الرخاء في سلال القصب، ولن تُحمل إلينا لبنات البناء والتنمية على ظهور البغال، ولن تأتي لنا الراحة والأمان في عربات تجرها الغزلان؛ إما علم وعمل وبناء، أو نوم وكسل وهزيمة، ومن أين اخترنا سنجد حصادا وافر.
نهاية .. علينا أن نعمل جميعا بجد واجتهاد وجلد، لا تراخي ولا تهاون ولا تخوين؛ وأن نشد أيدينا بأيدي بعض لنجتاز هذه المرحلة الصعبة، ونسعى للتغيير الشامل في إطار الشراكة الوطنية، كما يجب أن ننزل من أبراجنا العاجية ونتمرغ في تراب هذا الوطن الغالي. فهناك من يراهن على فشلنا ويتربص بنا الدوائر ليلحق بنا أكبر الضرر، فهل نحن على قدر كاف من اليقظة والاستعداد؟ وهل نحن قادرين على إخراج بلادنا من هذا النفق المظلم، وهذه المحنة الرهيبة؟؟؟