كلما أتذكر تحرير سيناء، أجد سعادتي مجروحة، ليس فقط بسبب القيود المفروضة على السيادة المصرية هناك بموجب اتفاقية كامب ديفيد، ولكن أيضًا بسبب انحيازنا لإسرائيل ضد فلسطين..
فبينما نحتفل ونفخر برفضنا التفريط في طابا التي لا تتعدى مساحتها كيلو مترًا مربعًا واحدًا، قمنا بالاعتراف بإسرائيل وبحقها في أرض فلسطين التاريخية، بل شاركنا في الضغوط على الفلسطينيين للتخلي عن 78% من وطنهم للصهاينة بموجب اتفاقيات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، التي تبنتها وتروج لها مصر الرسمية، وتدعم الملتزمين بها، وتحاصر وتشيطن من يرفضها.
ناهيك عن السماح للإسرائيليين بدخول سيناء من معبر طابا والمكوث على شواطئها لمدة 15 يومًا دون تأشيرة، بينما يعاني الفلسطينيون على معبر رفح من كل أنواع القيود.
***
لقد أصبح من طقوسنا السنوية، في إبريل من كل عام، أن ننبري جميعًا للحديث عن سيناء وتاريخها وتحريرها وبطولاتها، حتى إذا انقضت المناسبة، قمنا بإعادة الملف بكل تعقيداته ومشاكله المزمنة إلى الأدراج، ليظل هناك عامًا كاملًا، مهملًا منسيًا، إلى أن نتذكره مرة أخرى في العيد التالي، ما لم يقطع الصمت، كارثة جديدة.
وتشهد سيناء، منذ شهور طويلة، جرعات مكثفة من الكوارث، أعقبتها حزم من القرارات والإجراءات، المصحوبة بكثير من الحكايات والتحليلات والادعاءات، ما خلق حالة عامة من الخوف والقلق والغموض والالتباس، تحتم معها أن نحاول جميعًا المشاركة في فك طلاسمها.
***
أولًا- الحقائق الأساسية في سيناء
ترزح سيناء ومعها كل مصر تحت نير القيود العسكرية، التي فرضها علينا الصهاينة والأميركان في المادة الرابعة من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة عام 1979، والتي بموجبها يحظر على مصر نشر أكثر من 22 ألف جندي في المنطقة (أ) بجوار قناة السويس وعرضها 58 كيلو مترًا، وما لا يزيد على 4000 عسكري حرس حدود في المنطقة (ب) في وسط سيناء وعرضها 109 كيلو مترات، كما يحظر وجود أية قوات مصرية في المنطقة (ج) بجوار فلسطين (إسرائيل) وعرضها 33 كيلو مترًا؛ إذ مسموح لنا فيها بقوات شرطة (بوليس) فقط. أما على الجانب الإسرائيلي فيحظر نشر أية دبابات في المنطقة (د) بطول الحدود المصرية الإسرائيلية، وعرضها لا يتعدى 3 كيلو مترات. لتصبح أقرب دبابة إسرائيلية على بعد 3 كيلو متر من الحدود المصرية، في حين تبعد أقرب دبابة مصرية عن النقطة نفسها 150 كيلو مترًا، في انحياز فاضح وخطير وغير مسبوق للأمن القومي الإسرائيلي على حساب الأمن القومي المصري.
أضف إلى ذلك القوات الأجنبية المسماة بالقوات متعددة الجنسية MFO، التي تم نشرها في سيناء لتراقبنا، وعددها نحو 2000 عسكري، ما يقرب من نصفهم قوات أميركية، والباقي من دول حلف الناتو وحلفائهم. وهي قوات لا تخضع للأمم المتحدة، وإنما لوزارة الخارجية الأمريكية، ومديرها الحالي هو “ديفيد ساترفيلد” الذي شغل منصب القائم بأعمال السفير الأميركي في مصر بعد “آن بترسون”، في دلالة مهمة على حقيقة وطبيعة وانحيازات هذه القوات.
وهي الترتيبات التي جردت مصر من السيادة الكاملة على سيناء، وأضعفت من قبضة الدولة المصرية وشرعيتها هناك، وفتحت الأبواب على مصراعيها لكل أنواع الاختراق والتجسس والإرهاب والتهريب، بالإضافة إلى بروز انتماءات وشرعيات بديلة وموازية، بشكل لم يحدث أو يتكرر في أي بقعة أخرى في مصر.
فحتى في ظل الانفلات الأمني الذي ضرب ربوع مصر كلها بعد الثورة، لم يحدث أن وقع كل هذا العدد من القتلى في صفوف الشرطة والجيش في أي مكان آخر؛ لأن سيناء وحدها هي التي تعاني من قيود كامب ديفيد العسكرية والأمنية.
***
ثانيًا- الأكاذيب حول سيناء:
1) التنمية:
على امتداد أكثر من ثلاثين عامًا، كان رجال السلطة وخبراؤها من العسكريين والإستراتيجيين يدَّعون، في سياق دفاعهم عن اتفاقية السلام، أنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان، وأنه لا ضرورة لإلغائها أو تعديلها، وأن البديل هو تنمية سيناء، وأن هناك مشروعات كبرى تنوي الدولة تنفيذها هناك، وأنها خصصت لها مليارات الجنيهات. ثم لا يحدث شيء.
بينما الحقيقة التي يعلمونها جميعًا ولكنهم يخشون مصارحة الرأي العام بها، هي استحالة التنمية في غياب سيادة الدولة الكاملة وحمايتها. استحالة التنمية في ظل قيود كامب ديفيد الحالية. فكيف تبني مصانع ومزارع ومناجم ومدنًا وتعمرها بالناس وأنت عاجز عن حمايتها وحمايتهم؟ لا يوجد عاقل يمكن أن يقدم على ذلك. ولنا في مدن القناة عبرة كبيرة، حين قامت الدولة بتهجير أهاليها بعد 1967، حتى لا يكونون رهينة تحت القصف الإسرائيلى المستمر، في ظل غياب دفاع جوي فعال.
***
2) الفلسطينيون يطمعون في استيطان سيناء:
هذه واحدة من أكثر الأكاذيب انتشارًا وترويجًا في الفترة الأخيرة، بهدف تبرير الانحياز المصري الرسمي لإسرائيل في حصارها واعتداءاتها على الفلسطينيين في غزة، وأيضًا لتبرير التنسيق والتقارب المصري الإسرائيلي غير المسبوق في مواجهة “العدو المشترك” المتمثل في الارهاب الفلسطيني (المقاومة). فاستيطان الفلسطينيين لسيناء هو مشروع صهيوني رفضته كل الأطراف المصرية والفلسطينية دون استثناء. كما أن الذين يرفضون التنازل عن أراضيهم التاريخية (فلسطين 1948) لإسرائيل ويرفضون الاعتراف بشرعيتها ويقاتلونها ويقدمون شهداءً بالآلاف دفاعًا عن أراضيهم ومواقفهم، لا يمكن أن يستبدلوا أوطانهم بأية أراضٍ أخرى في مصر أو غيرها.
***
3) مصر تحررت من قيود كامب ديفيد:
يشيع البعض نفاقًا وتضليلًا أن الإدارة المصرية الحالية قد تمكنت من التحرر من القيود العسكرية المذكورة عاليه، بدليل وجود قوات مصرية إضافية الآن في سيناء تكافح الإرهاب.
وهو كلام عار من الصحة تمامًا، فهم يعلمون جيدًا أن نشر أية قوات مصرية إضافية في سيناء يتطلب استئذان إسرائيل وموافقتها على أعداد القوات وتسليحها وأماكن.