حتى لا ننسى، أو تتبدّل الروايات بفعل غسيل الأدمغة الذي تمارسه الأنظمة القمعية المهيمنة في بلادنا، كانت ثورات الربيع العربي، ومازالت، ثورات سلمية في جوهرها، فهي لم ترفع شعارات العنف أو الإقصاء، بل رفعت شعارات السلمية والديمقراطية وعدالة التوزيع. في المقابل، قوبلت تلك الثورات بنظم أمنيةٍ عنيفة إقصائية، بالغت، أحياناً كثيرة، في استخدام القمع والعنف المفرط بأنواعه المختلفة، ولو على حساب تدمير بلادها، وفتحها أمام التدخل الخارجي، كما حدث في سورية وليبيا واليمن.
كانت الثورة التونسية فاتحة الثورات العربية وقائدتها بشعاراتها السلمية، وبتدفق الجماهير إلى الشوارع، ومطالبتها بالحرية وإسقاط النظام، وبانحياز الجيش التونسي لها، ما منع البلاد من الانزلاق إلى العنف، وأسرع بهروب بن علي في فترة وجيزة، فتحت شهية الشعوب العربية على الثورات.
وكانت الثورة المصرية هي التالية بأسابيعها الثلاثة، والتي شهد العالم كله بسلميتها وحضاريتها وانفتاحها. وعلى الرغم من سلمية المظاهرات، قتلت قوات النظام الأمنية مئات المتظاهرين العزّل في الشوارع، واعتقلت مثلهم. ومع ذلك، لما تخلى حسني مبارك عن الحكم، سارع المتظاهرون إلى تنظيف الشوارع وإخلائها، بعد أن وثقوا في كلمات فضفاضة أدلى بها قادة الجيش الذين أعلنوا الانحياز للثورة.
ويوم سقوط مبارك، انطلقت ثورة اليمن، والتي قادها الطلاب، وشهدت مشاركة رائعة للمرأة اليمنية في مجتمعٍ محافظ، واستمر الشباب يتظاهرون سلمياً، ويتلقون الرصاص بصدورٍ عارية، والرصاص يحصدهم فرادى وبالعشرات، كما حدث في جمعة الكرامة (13 مارس/ آذار 2011)، ودفعت دماء الشباب المراقة مزيداً من قطاعات الشعب للانضمام للثورة، حتى اضطر علي عبدالله صالح للتوقيع على المبادرة الخليجية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
أما الثورة الليبية فقد ووجهت من اليوم الأول بقمع القذافي المفرط، وبكتائب مؤسساته الأمنية، وسرعان ما عرفت الثورة مستوياتٍ مقلقةً من القمع، في ظل غياب مؤسساتٍ مركزيةٍ جادّةٍ، كجيش قوي يمكن أن ينحاز للشعب، فقد أضعف القذافي الجيش لصالح خليطٍ من المؤسسات الأمنية التابعة له. وبمرور الوقت، تدخل الخارج لتسليح الثورة الليبية، لحماية المدن الليبية المحاصرة من قوات القذافي.
وفي مارس/ آذار 2011، انطلقت الثورة السورية، والتي رفعت بقوة شعارات السلمية، وحافظت عليها في وجه أكثر أنظمة المنطقة عسكرةً وقمعاً، شهوراً استمر المتظاهرون السوريون السلميون يتلقون الرصاص وقذائف المدفعية، تصيب المظاهرات والمدن الثائرة، حتى دفع عنف النظام المفرط وتعنته إلى انشقاق مزيدٍ من عناصر الجيش السوري، ورفع الثوار السوريون السلاح بشكل متزايد في أواخر عام 2011.
وعلى مدى السنوات الخمس التالية، دفعت الأنظمة القمعية بلادها دفعاً نحو العنف، بقتل
“العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات” المتظاهرين السلميين في الشوارع، واعتقال عشرات الآلاف وتعذيبهم، وإطلاق العناصر الدينية المتشدّدة من السجون، بل وفتح الباب لصعود الجماعات العنيفة من بلاطجة إلى ملثمين إلى دواعش، فالعنف هو لعبة تلك الأنظمة العسكرية المفضلة، فهي تجيده، بحكم خلفياتها العسكرية بعكس الثوار السلميين، كما أن انخراط البلاد في العنف وخطر الفوضى واللاجئين والمجاعات وصعود الجماعات الدينية المتشددة كان بمثابة ورقة المقايضة التي تستخدمها النظم القمعية في مواجهة الخارج، والضغط عليه، للتوقف عن دعم الثورات السلمية، والإقرار بحقيقة بقائها، ضماناً لعدم انزلاق البلاد (وفقا لخطط النظم القمعية نفسها) إلى العنف والفوضى.
في مصر، قتلت المؤسسات الأمنية عشرات المتظاهرين السلميين في الشوارع في مواجهات مستمرة خلال العام الأول للثورة، وصعدت قوى سلفية متشددة إلى السطح بشكل مفاجئ، رافعة شعارات الكفر بالديمقراطية والثورة، وشغلت الناس بصراعات دينية وأيديولوجية طاحنة، ليثبت بعد انقلاب 3 يوليو 2013 حقيقة تحالف بعض أهم تلك الجماعات وأكثرها نفوذاً مع المؤسسات الأمنية نفسها، ومع الثورات المضادة في العالم العربي. كما شهدت الساحة الإعلامية المصرية تسابقاً محموماً من رؤوس الأموال العربية، وخصوصاً الداعمة للديكتاتوريات والثورات المضادة لشراء الفضاء الإعلامي، والدخول للساحة المصرية، حاملة شعارات الحرية والعهد الجديد أولاً، لترسيخ أقدامها، ثم لتنقضّ على الثورة، وترفع شعارات التخويف من الثورة والقوى السياسية الجديدة تباعاً، في مرحلة من الخداع الإقليمي والإعلامي، لن تنمحي من الذاكرة المصرية بسهولة.
في اليمن، وعلى الرغم من منح علي عبد الله صالح الحصانة من المساءلة عما ارتكبه من جرائم في حق شعبه، وفقا للمبادرة الخليجية إلا أن هذا لم يكفه، واستمر مسلسل تعطيل الثورة. وفي النهاية، دخل صالح في تحالفٍ مع خصومه الحوثيين، لإسقاط الحكومة المنتخبة والداعمة للثورة في انقلاب عسكري آخر حوّل البلاد إلى ساحة حربٍ إقليمية، نظراً للدعم الذي يحظى به الحوثيون من إيران، ما دفع السعودية وعددا من دول الخليج إلى التدخل، وما زالت اليمن تعاني، حتى هذه اللحظة، من عذابات الحرب في ظل اقتصادٍ منهارٍ وفقر مستشرٍ، وأوضاع إنسانية متفاقمةٍ، وضعف الاهتمام الدولي. وفي ليبيا، لم تكتف دول الثورة المضادة بحقيقة ضعف الدولة المركزية الهائل، وتفتت الليبيين بين ولاءاتٍ دينيةٍ ومحليةٍ وإقليميةٍ وسياسيةٍ متعدّدة، وغياب مؤسسات دولةٍ راسخةٍ بل عملت على تأييد انقلاب عسكري آخر بقيادة خليفة حفتر، على غرار انقلاب عبد الفتاح السيسي العسكري. ونظراً لضعف المؤسسات الأمنية المركزية، لم يحقق حفتر أي إنجازٍ يُذكر، وانقسمت ليبيا إلى حكومتين، إحداهما في طرابلس والأخرى في طبرق، حتى يئس المجتمع الدولي من المشهد الليبي وانتشار داعش في سرت وغيرها، وتدخل لدعم حكومة الوفاق الوطني، على أمل إخراج البلاد من الانقسام. أما سورية، فقد تمترس النظام في قوات أمنٍ طائفيةٍ، وطلب دعم طائفي كذلك من مليشيات إقليمية وإيران، بالإضافة إلى روسيا، والتي تدخلت بآلة حربٍ مدمرةٍ، لدعم بقاء النظام في السلطة. وتحولت سورية إلى ساحة حربٍ داميةٍ، راح ضحيتها ربع مليون سوري، وتهجر بسببها نصف الشعب أو يزيد، وفقدت الدولة السورية مئات المليارات من ثروتها المادية والبشرية.
“تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية”
ولو حاولنا تلخيص أهم خصائص العنف الذي استخدمته الأنظمة ضد الثورات، لتحدثنا عن التالي:
أولا: تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية، وتعتمد على خليطٍ هائل من مؤسسات الأمن القمعية، والتي تعمل عادة خارج إطار القانون.
ثانياً: تمارس تلك الأنظمة العنف بشكل يومي ومعتاد ومنظم، وعلى مستويات مختلفة، فالمؤسسات الأمنية، ظلت عقوداً لم تتوقف عن قمع المعارضين وتعذيبهم وسجنهم من خلال محاكماتٍ صوريةٍ، أو عسكرية، ما ساهم من دون شك في إهدار فرص تطوير المعارضة وأحزابها.
ثالثاً: لا يتوقف العنف على قمع مؤسسات الأمنية والتعذيب، بل يمتد إلى الدساتير، والتي تبيح محاكمة العسكر المدنيين، وتحظر الأحزاب، وتعاقب القوانين ومؤسسات القضاء خصوم النظام بإعلانهم “إرهابيين”، وتحظرهم وتجرّمهم، بل تنشر مؤسسات الإعلام الرسمية العنف والكراهية ضد خصوم النظام، وتشارك المؤسسات الدينية الرئيسية في الدولة في التعتيم على العنف، وشرعنته داخلياً وخارجياً.
رابعاً: العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات، وجرّ الثورات إلى العنف هو غاية من غايات النظام، حتى يسهل تشويه عمليات التحول الديمقراطية وتخويف الخارج منها.
خامساً: تجد الأنظمة دعماً خارجياً إقليمياً ودولياً من الديكتاتوريات العربية وإسرائيل وروسيا واليمين الغربي، يمدها بالمال والسلاح والمليشيات والدعم السياسي، لقمع شعوبها والهروب من العقاب.
سادساً: تحت العنف المفرط قد تضيع بوصلة بعض أبناء الجماعات السياسية الجادّة ولو فترة. ولكن، نأمل أن يرسخ شركاء الربيع العربي وعيهم بطبيعة ثوراتهم المنادية بالحقوق والحريات والديمقراطية القائمة على التبادل السلمي للسلطة، وبناء مؤسساتٍ دولةٍ محترمةٍ، ترعى هذا التبادل وتدافع عنه، وأن يدرك الشباب طبيعة العنف استراتيجيةً راسخةً، ومفضلة الأنظمة الاستبدادية والثورات المضادة.
حتى لا ننسى، أو تتبدّل الروايات بفعل غسيل الأدمغة الذي تمارسه الأنظمة القمعية المهيمنة في بلادنا، كانت ثورات الربيع العربي، ومازالت، ثورات سلمية في جوهرها، فهي لم ترفع شعارات العنف أو الإقصاء، بل رفعت شعارات السلمية والديمقراطية وعدالة التوزيع. في المقابل، قوبلت تلك الثورات بنظم أمنيةٍ عنيفة إقصائية، بالغت، أحياناً كثيرة، في استخدام القمع والعنف المفرط بأنواعه المختلفة، ولو على حساب تدمير بلادها، وفتحها أمام التدخل الخارجي، كما حدث في سورية وليبيا واليمن.
كانت الثورة التونسية فاتحة الثورات العربية وقائدتها بشعاراتها السلمية، وبتدفق الجماهير إلى الشوارع، ومطالبتها بالحرية وإسقاط النظام، وبانحياز الجيش التونسي لها، ما منع البلاد من الانزلاق إلى العنف، وأسرع بهروب بن علي في فترة وجيزة، فتحت شهية الشعوب العربية على الثورات.
وكانت الثورة المصرية هي التالية بأسابيعها الثلاثة، والتي شهد العالم كله بسلميتها وحضاريتها وانفتاحها. وعلى الرغم من سلمية المظاهرات، قتلت قوات النظام الأمنية مئات المتظاهرين العزّل في الشوارع، واعتقلت مثلهم. ومع ذلك، لما تخلى حسني مبارك عن الحكم، سارع المتظاهرون إلى تنظيف الشوارع وإخلائها، بعد أن وثقوا في كلمات فضفاضة أدلى بها قادة الجيش الذين أعلنوا الانحياز للثورة.
ويوم سقوط مبارك، انطلقت ثورة اليمن، والتي قادها الطلاب، وشهدت مشاركة رائعة للمرأة اليمنية في مجتمعٍ محافظ، واستمر الشباب يتظاهرون سلمياً، ويتلقون الرصاص بصدورٍ عارية، والرصاص يحصدهم فرادى وبالعشرات، كما حدث في جمعة الكرامة (13 مارس/ آذار 2011)، ودفعت دماء الشباب المراقة مزيداً من قطاعات الشعب للانضمام للثورة، حتى اضطر علي عبدالله صالح للتوقيع على المبادرة الخليجية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
أما الثورة الليبية فقد ووجهت من اليوم الأول بقمع القذافي المفرط، وبكتائب مؤسساته الأمنية، وسرعان ما عرفت الثورة مستوياتٍ مقلقةً من القمع، في ظل غياب مؤسساتٍ مركزيةٍ جادّةٍ، كجيش قوي يمكن أن ينحاز للشعب، فقد أضعف القذافي الجيش لصالح خليطٍ من المؤسسات الأمنية التابعة له. وبمرور الوقت، تدخل الخارج لتسليح الثورة الليبية، لحماية المدن الليبية المحاصرة من قوات القذافي.
وفي مارس/ آذار 2011، انطلقت الثورة السورية، والتي رفعت بقوة شعارات السلمية، وحافظت عليها في وجه أكثر أنظمة المنطقة عسكرةً وقمعاً، شهوراً استمر المتظاهرون السوريون السلميون يتلقون الرصاص وقذائف المدفعية، تصيب المظاهرات والمدن الثائرة، حتى دفع عنف النظام المفرط وتعنته إلى انشقاق مزيدٍ من عناصر الجيش السوري، ورفع الثوار السوريون السلاح بشكل متزايد في أواخر عام 2011.
وعلى مدى السنوات الخمس التالية، دفعت الأنظمة القمعية بلادها دفعاً نحو العنف، بقتل
“العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات” المتظاهرين السلميين في الشوارع، واعتقال عشرات الآلاف وتعذيبهم، وإطلاق العناصر الدينية المتشدّدة من السجون، بل وفتح الباب لصعود الجماعات العنيفة من بلاطجة إلى ملثمين إلى دواعش، فالعنف هو لعبة تلك الأنظمة العسكرية المفضلة، فهي تجيده، بحكم خلفياتها العسكرية بعكس الثوار السلميين، كما أن انخراط البلاد في العنف وخطر الفوضى واللاجئين والمجاعات وصعود الجماعات الدينية المتشددة كان بمثابة ورقة المقايضة التي تستخدمها النظم القمعية في مواجهة الخارج، والضغط عليه، للتوقف عن دعم الثورات السلمية، والإقرار بحقيقة بقائها، ضماناً لعدم انزلاق البلاد (وفقا لخطط النظم القمعية نفسها) إلى العنف والفوضى.
في مصر، قتلت المؤسسات الأمنية عشرات المتظاهرين السلميين في الشوارع في مواجهات مستمرة خلال العام الأول للثورة، وصعدت قوى سلفية متشددة إلى السطح بشكل مفاجئ، رافعة شعارات الكفر بالديمقراطية والثورة، وشغلت الناس بصراعات دينية وأيديولوجية طاحنة، ليثبت بعد انقلاب 3 يوليو 2013 حقيقة تحالف بعض أهم تلك الجماعات وأكثرها نفوذاً مع المؤسسات الأمنية نفسها، ومع الثورات المضادة في العالم العربي. كما شهدت الساحة الإعلامية المصرية تسابقاً محموماً من رؤوس الأموال العربية، وخصوصاً الداعمة للديكتاتوريات والثورات المضادة لشراء الفضاء الإعلامي، والدخول للساحة المصرية، حاملة شعارات الحرية والعهد الجديد أولاً، لترسيخ أقدامها، ثم لتنقضّ على الثورة، وترفع شعارات التخويف من الثورة والقوى السياسية الجديدة تباعاً، في مرحلة من الخداع الإقليمي والإعلامي، لن تنمحي من الذاكرة المصرية بسهولة.
في اليمن، وعلى الرغم من منح علي عبد الله صالح الحصانة من المساءلة عما ارتكبه من جرائم في حق شعبه، وفقا للمبادرة الخليجية إلا أن هذا لم يكفه، واستمر مسلسل تعطيل الثورة. وفي النهاية، دخل صالح في تحالفٍ مع خصومه الحوثيين، لإسقاط الحكومة المنتخبة والداعمة للثورة في انقلاب عسكري آخر حوّل البلاد إلى ساحة حربٍ إقليمية، نظراً للدعم الذي يحظى به الحوثيون من إيران، ما دفع السعودية وعددا من دول الخليج إلى التدخل، وما زالت اليمن تعاني، حتى هذه اللحظة، من عذابات الحرب في ظل اقتصادٍ منهارٍ وفقر مستشرٍ، وأوضاع إنسانية متفاقمةٍ، وضعف الاهتمام الدولي. وفي ليبيا، لم تكتف دول الثورة المضادة بحقيقة ضعف الدولة المركزية الهائل، وتفتت الليبيين بين ولاءاتٍ دينيةٍ ومحليةٍ وإقليميةٍ وسياسيةٍ متعدّدة، وغياب مؤسسات دولةٍ راسخةٍ بل عملت على تأييد انقلاب عسكري آخر بقيادة خليفة حفتر، على غرار انقلاب عبد الفتاح السيسي العسكري. ونظراً لضعف المؤسسات الأمنية المركزية، لم يحقق حفتر أي إنجازٍ يُذكر، وانقسمت ليبيا إلى حكومتين، إحداهما في طرابلس والأخرى في طبرق، حتى يئس المجتمع الدولي من المشهد الليبي وانتشار داعش في سرت وغيرها، وتدخل لدعم حكومة الوفاق الوطني، على أمل إخراج البلاد من الانقسام. أما سورية، فقد تمترس النظام في قوات أمنٍ طائفيةٍ، وطلب دعم طائفي كذلك من مليشيات إقليمية وإيران، بالإضافة إلى روسيا، والتي تدخلت بآلة حربٍ مدمرةٍ، لدعم بقاء النظام في السلطة. وتحولت سورية إلى ساحة حربٍ داميةٍ، راح ضحيتها ربع مليون سوري، وتهجر بسببها نصف الشعب أو يزيد، وفقدت الدولة السورية مئات المليارات من ثروتها المادية والبشرية.
“تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية”
ولو حاولنا تلخيص أهم خصائص العنف الذي استخدمته الأنظمة ضد الثورات، لتحدثنا عن التالي:
أولا: تأتي معظم الأنظمة الاستبدادية من خلفياتٍ عسكرية، وتعتمد على خليطٍ هائل من مؤسسات الأمن القمعية، والتي تعمل عادة خارج إطار القانون.
ثانياً: تمارس تلك الأنظمة العنف بشكل يومي ومعتاد ومنظم، وعلى مستويات مختلفة، فالمؤسسات الأمنية، ظلت عقوداً لم تتوقف عن قمع المعارضين وتعذيبهم وسجنهم من خلال محاكماتٍ صوريةٍ، أو عسكرية، ما ساهم من دون شك في إهدار فرص تطوير المعارضة وأحزابها.
ثالثاً: لا يتوقف العنف على قمع مؤسسات الأمنية والتعذيب، بل يمتد إلى الدساتير، والتي تبيح محاكمة العسكر المدنيين، وتحظر الأحزاب، وتعاقب القوانين ومؤسسات القضاء خصوم النظام بإعلانهم “إرهابيين”، وتحظرهم وتجرّمهم، بل تنشر مؤسسات الإعلام الرسمية العنف والكراهية ضد خصوم النظام، وتشارك المؤسسات الدينية الرئيسية في الدولة في التعتيم على العنف، وشرعنته داخلياً وخارجياً.
رابعاً: العنف هو الملجأ الرئيسي لأنظمة الاستبداد، وأسلوبها المفضل في قمع الثورات، وجرّ الثورات إلى العنف هو غاية من غايات النظام، حتى يسهل تشويه عمليات التحول الديمقراطية وتخويف الخارج منها.
خامساً: تجد الأنظمة دعماً خارجياً إقليمياً ودولياً من الديكتاتوريات العربية وإسرائيل وروسيا واليمين الغربي، يمدها بالمال والسلاح والمليشيات والدعم السياسي، لقمع شعوبها والهروب من العقاب.
سادساً: تحت العنف المفرط قد تضيع بوصلة بعض أبناء الجماعات السياسية الجادّة ولو فترة. ولكن، نأمل أن يرسخ شركاء الربيع العربي وعيهم بطبيعة ثوراتهم المنادية بالحقوق والحريات والديمقراطية القائمة على التبادل السلمي للسلطة، وبناء مؤسساتٍ دولةٍ محترمةٍ، ترعى هذا التبادل وتدافع عنه، وأن يدرك الشباب طبيعة العنف استراتيجيةً راسخةً، ومفضلة الأنظمة الاستبدادية والثورات المضادة.