منذ ثورة يناير والسجال الإسلامي الداخلي الذي يفحص إنجاز الإسلاميين مستمر، فقد فتحت ثورة يناير آفاقا للمحاولة والتجريب، بعضها –وفي سلوك طبيعي- أسس لشرعيته على نقد المسار الطويل الذي عبرته بعض جماعات الإسلاميين السابقة، فالمحاولة الجديدة لا معنى لها إن استنسخت المحاولات القائمة منذ عقود، وإنما الذي يمنحها المعنى هو الاختلاف الذي يُعبِّر عن نفسه بنقد السابق وتقديم البديل.
وقد كانت جماعة الإخوان المسلمين، باعتبار تاريخها القديم، وحجمها الكبير، الأكثر عرضة للنقد، واتهاما بالفشل، فهي وبعد أكثر من 80 عاما، قد آل أمرها إلى المأساة التي لا تختنق بها مصر اليوم فحسب، بل تختنق بها الأمة كلها.
وبعد مرحلة التضامن التي جمعت الإسلاميين وغيرهم من مناوئي الانقلاب، من الطبيعي أن تعود الاتهامات بالفشل إلى الظهور مجددا، ولاسيما مع استمرار الانقلاب وخسارة الرهانات على إمكان إسقاطه السريع بأدواته، أي بالمظاهرات والاعتصامات، أو بانقلاب عسكري آخر، أو بفعل التردي الاقتصادي، أو بفعل التغيرات الإقليمية والدولية.
لكن المشكلة التي تعترض هذا السجال دائما، قبل الانقلاب وبعده، تتمثل أساسا في عدم تحرير المنطلقات والأرضيات والمفاهيم والمصطلحات، فبدون ذلك لا يمكن الاتفاق على حقيقة الفشل والنجاح، فلا بد من مراعاة السياقات الخاصة بعيدا عن تمحّل المناكفات أو المقترحات الطفولية النزقة التي تَحْمِل الآخرين على أفكار لا تراعي ظروفهم الخاصة، فآفاق العمل ومنافذ الحركة ليست واحدة في كل البلاد.
ولابد من تحرير الموقف من موضوعات الدولة وماهيتها، والشريعة وحاكميتها، والوحي ومرجعيته، والأمة ووحدتها، وفلسطين وتحريرها، ولابد من الوضوح في تحديد الأهداف إن كانت تقتصر على محض الحفاظ على الذات الفيزيائية، أو البحث عن قبول بهذه الذات جزءا من المنظومة السياسية ضمن بنية الدولة القائمة.
وقد تمكن الإسلاميون، والإخوان المسلمون منهم تحديدا، من الحفاظ على الذات في بعض البلاد لعقود طويلة، دون أن يُعتبَر هذا في حدّ ذاته نجاحا، ووصلوا إلى تسويات مع بعض أنظمة الحكم تحفظ لهم دورا في المساهمة داخل بنية الدولة، وصار منهم الوزراء والنواب ورؤساء البرلمان، كما كان الحال في الأردن (مضرب المثل بالفشل اليوم)، أو في غيره، ولم يُعتبَر هذا نجاحا كذلك، بل كان محلّ نقد مستمر، وما تزال الحركة الإسلامية تحكم السودان دون أن يَعتبِر أحد هذا الحكم نجاحا، فضلا عن أن يكون نموذجا مُلهما.. وهكذا، فما أكثر هذه الإنجازات التي ما كانت لتُعدّ نجاحا مطلقا.
وإذن، فلا يمكن اعتبار تحقيق إنجاز من هذا النمط، في سياق آني وطارئ نجاحا مطلقا يُدعا إليه، وطفرة فكرية وسياسية غير مسبوقة، فهو في أحسن أحواله نجاح محكوم إلى سياقه، ومنطلقات أصحابه، بل هو نجاح تفرزه المقارنات المقهورة بالظروف الطارئة والسائلة، حتى إذا زالت هذه المقارنات أو لم تكن موجودة، انكشف الحجم الحقيقي لهذا الإنجاز.
ولا يعني هذا انعدام القدرة على تقييم أداء الإسلاميين، والحكم عليهم بالنجاح والفشل، على أساس المهمات التي تصدوا لها، كتصدي جماعة الإخوان المسلمين في مصر من بعد الثورة لقيادة الدولة، كاشفة بعد ذلك عن جهل ببنية هذه الدولة، وعجز عن التعامل مع متطلبات ما تصدوا إليه، وقدرة الدولة وأجهزتها على خداع الجماعة التي تملك عُمرا أكبر من عمر دولة العسكر نفسها، وهو ما يحمّل الجماعة قسطا من المسؤولية عن الفاجعة القائمة، دون إغفال تعقيدات الظروف الموضوعية، وأدوار الفاعلين الآخرين.
وقد فشلت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن في صياغة استراتيجية تناسب بلدا منغلق الأفق، حتى انقسمت على نفسها على أسس عصبوية وإقليمية وشخصية مخجلة، بعد أن كانت الجماعة الرائدة، من بين كل جماعات الإخوان، في تأسيس حركة حماس، ولم تكن الشعارات الفكرية والسياسية إلا أقنعة لتغطية الأسباب الحقيقية للانقسام.
وما من حركة إسلامية، أو جماعة إخوانية، إلا ويمكن الحديث عن العديد من أوجه الفشل فيها، في ضوء أدائها وشعاراتها وأفكارها، إلا أن السجال الدائر اليوم لا يخلو من الابتذال والاستعجال والنزق وعدم الانتباه لتعلق الأفكار بضغط اللحظة الراهنة.
فالاختزال من أشكال هذا الابتذال، كاختزال مشكلة بالغة التعقيد، هي مشكلة الأمة بكل ما تعلق بها، بموضوعة فصل الدعوي عن السياسي، وهي موضوعة محترمة جديرة بالنقاش والتحديد والبيان والتوضيح والتجريب، ولكنها بالتأكيد ليست الحل السحري لما نحن فيه، ولا هي السبب لما نحن فيه، هذا فضلا عن التجارب التاريخية التي نجحت واستمرت دون الاعتماد على هذا “الحل السحري والمطلق والوحيد”، كالتجربة الإيرانية، مع الفهم الكامل لخصوصية الحالة الشيعية.
وكذلك مناقشة مصيبة الأمة -والتي هي نتاج قرون من الانحطاط ثم عقود من الاستعمار والاستبداد والعمالة والفساد- من مدخل واحد وهو جماعة الإخوان المسلمين، وهو مدخل مريح لتفسير أسباب فشل كل محاولات وأفكار التغيير والإصلاح التي جربتها كل قوى الأمة منذ مئة عام، وهو تفسير لا يكاد يَفترِض إلا فاعلاً واحدًا هو جماعة الإخوان، وفاشلا واحدا هو جماعة الإخوان!
ومقولات نقدية، كهذه، تستبطن من جهة نفي كل الظـروف الموضوعية التي تبدو أكبر من قدرات الإسلاميين، وأعظم من كل المقترحات المطروحة، مهما ادعت بعض جماعات الإسلاميين الطليعة في الأمة والتفوق الفكري والقيادي، إذ لا يعدو أن يكون الإسلاميون بكل جماعاتهم جزءا من هذه الأمة الرازحة أسفل ركام بدأ بالانهيار قبل تأسيس أي جماعة إسلامية بقرون.
والتعثر الراهن، ومبادرة جماهير الأمة إلى تحمل المسؤولية، ينبغي أن يُعلم الإسلاميين التواضع، ويُعرِّفهم بحجمهم الطبيعي وقدراتهم المحدودة، فالقضية قضية أمة لا قضية الإسلاميين، ولا قضية واحدة من جماعاتهم، وحركة التاريخ الجارية قد تتجاوز الإخوان، بل وكل تجارب الإسلاميين التي عرفناها.
ومن جهة أخرى، تستبطن هذه المقولات، ادعاء بالنجاح، أو تذرعا بالإخوان لتبرير الفشل، (أي لولا الإخوان لما فشلنا)، فتكون الإخوان المسؤولة عن فشلك وأنت فيها، والمسؤولة عنه وأنت خارجها، في حين لا يحق للإخوان التذرع بأي ظرف خارجي لتبرير فشلها!
والحق أن جماعة بحجم الإخوان وتاريخها، لا بد أن تتحمل قسطا من المسؤولية عن الأوضاع القائمة، لكنها ليست المسؤولة عن عجز أي محاولة بديلة عن إنجاز مقترحاتها، أو عن تعظيم حجمها ليوازي الإخوان في قدر المسؤولية، ولا يمكن الادعاء في هذه الحالة أن الحجم الصغير لبعض المحاولات الحزبية يعفيها من سؤال النجاح والفشل، فالعجز عن تعظيم الحجم في حد ذاته قد يُعدّ فشلا، طالما أن قدر المسؤولية، طردا وعكسا، لا ينفك عن الحجم، على ضوء هذه المقولات التي تحاسب الإخوان إلى حجمها!
دعونا ننتقد الإخوان، ولكن دعونا لا نستسلم إلى هذه الممارسة المريحة!