إن يوما من عمر الزمان ليس بشيء، لكنه في سجل التاريخ قد يمثل تأريخا ويكشف تاريخا، هكذا كان يوم فض اعتصام رابعة والنهضة.
لقد كان الرابع عشر من آب/ أغسطس 2013 (يوم المجزرة) يوما فارقا في تاريخ مصر الحديث، والمنطقة كلها؛ فقد كان كاشفا لحقيقة ماقبله و مثل تأريخا لما حدث بعده.
لم يكن ما حدث في رابعة والنهضة انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان فحسب ولكنه كان بحسب وصف منظمات دولية عملا ممنهجا وجزءًا من سياسة تقضى بالاعتداء على الأشخاص العزل على أسس سياسية مما جعلها ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الانسانية.
لم يكن يدور في خلد مصري أن يوما كيوم الرابع عشر من آب/ أغسطس 2013 سيأتي و يرتكب مصريون أبشع مجزرة عرفتها مصر في العصر الحديث في حق معتصمين سلميين مصريين، لكن مالم يتخيله الكثيرون أصبح واقعا موثقا، شاهده القاصي والداني، على الهواء مباشرة، وسجل التاريخ صفحة حالكة السواد تنوء بحملها سجلاته، ولن تنمحي من ذاكرة المصريين، لتظل عارا يلاحق مرتكبيها ومن أعان عليها واستمرأها وسكت عنها.
لم تكن مذبحة رابعة والنهضة الأولى في تاريخ مصر والمنطقة في القرنين العشرين والحادي والعشرين إلا أنها كانت الأولي بالنسبة للمصريين من حيث فظاعتها ومن ارتكبوها، وضحاياها وفترتها التي كانت مصر تمر فيها بمرحلة تحول بعد ثورة ألهمت العالم، وكانت تستعد لتنفض عنها ميراث سنين عجاف لتنطلق والمنطقة معها.
حدث في مصر قبل عقود
لقد كانت رابعة كاشفة؛ فما حدث في رابعة أعاد إلى ذاكرة المصريين ما حدث قبلها ليكشف ويؤكد حقيقة ما كان على مدار أكثر من ستة عقود واجتهد النظام في طمسه إذ لم يكن نصيب المصريين ممن عايشوا هذه العقود إلا ما سمعه البعض وقرأه آخرون وهنا سنمر على أمثلة منها.
منذ 1954 وخلال فترة جمال عبدالناصر شهدت مصر اعتقالات لعشرات الآلاف و اعدامات وقتل لمعتقلين ومدنيين عزل راح ضحية ذلك مئات وقد تحدث عن هذه الفترة رجالات عايشوها وكانوا من الفاعلين فيها وذكروا طرفا مما حدث وإن ما زال الكثير طي الكتمان لأن المنظومة نفسها هي التي تحكم حتى الآن.
وفي عهد مبارك مر على المصريين ايضا مجازر متعددة لم يعرف عنها كثيرون شيئا.
انتفاضة أو تمرد الأمن المركزي
في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير سنة 1986 شهدت القاهرة وبعض المحافظات تمردا لجنود الأمن المركزي احتجاجا على ما أشيع من زيادة فترة التجنيد الاجباري أكثر من ثلاث سنوات.
كانت هذه الأحداث في فترة وزارة اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية المصري وقتها والذي بينت مصادر أن انتفاضة جنود الأمن المركزي تم التدبير لها من أجل إزاحته عن كرسي الوزارة لمصلحة نافذين في السلطة ومقربين من مبارك، بسبب إجراءاته في القضاء على تجارة المخدرات في مصر بحسب العديد من المصادر وتصريحاته شخصيا لبعض الصحفيين بعد ذلك.
كانت نتيجة هذه الانتفاضة قتلى بالآلاف في محافظة أسيوط تحديدا حسب ما رددته بعض المصادر، كما أن أخبارا ترددت أن محافظ أسيوط آنذاك اللواء زكى بدر-الذى أصبح وزيرا للداخلية مكافأة له على دوره فى مواجهة الأحداث)- قام بفتح هويس (القناطر) في أسيوط للحيلولة دون وصول جنود الأمن المركزي من معسكرهم في البر الشرقي الذى أحرقوه وخرجوا منه، وتذكر مصادر غرق ثلاثة آلاف جندي على الأقل من جراء فتح الهويس، وتردد ايضا ان مبارك أمر باستخدام الطائرات لضرب جنود الأمن المركزي.
وفي الثامن من آب/ أغسطس سنة 2011 قدم المحامي شحاتة محمد شحاتة مدير مركز النزاهة والشفافية الحقوقي بلاغا للنائب العام ضد مبارك متهما إياه بالتسبب في قتل ستة آلاف جندي أمن مركزي في أحداث انتفاضة الأمن المركزي في 1986، وطالب بإعادة فتح التحقيق في هذه الأحداث والذي لم يفتح مطلقا وظل الحديث عن هذه الواقعة حبيس الغرف المغلقة التي سربت طرفا مما حدث وكأن هؤلاء الآلاف من المصريين مجرد أرقام لا بواكي لهم.
مذبحة اللاجئين السودانيين في قلب القاهرة
في فجر يوم الجمعة 30 كانون الأول/ ديسمبر 2005 نفذت قوات الأمن المصري في عهد مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي عملية فض بحق ما يقارب الثلاثة آلاف من رجال ونساء وأطفال من اللاجئين المعتصمين في حديقة ميدان مصطفى محمود بالمهندسين وكانوا قد أمضوا في الاعتصام ثلاثة أشهر متصلة، وقد نتج عن ذلك مقتل 27 لاجئاً قتيلاً كما ذكر بيان الداخلية المصرية وقتها، غير أن اللاجئين قدروا أن عدد القتلى منهم هو 150 إضافة إلى إصابة 300، ولم يتلق الجرحى من اللاجئين العلاج حتى مات بعضهم من النزيف، وقد ذكر طبيب مصري من مستشفى المنيرة في شهادات نشرت أن معظم الاصابات كانت في الرأس والعنق وبآلات حادة.
مذابح مستمرة
ما سبق المرور عليه من أحداث كان التعامل الدموي المباشرة للسلطة سببا في مجازر قُتلت فيها النفس البشرية التي حرم الله بغير حق؛ لكنه من ناحية أخرى فقد شهدت مصر مجازر من نوع آخر ، ما زالت مستمرة يروح ضحيتها آلاف المصريين بغير حق مرضا وغرقا وحرقا ودهسا واصطداما على الطرقات، وفي سقوط الطائرات، والسلطة أيضا الفاعل فيها عبر الاهمال والفساد؛ فأرواح المصريين إن لم تصعد إلى بارئها بيد البطش طلبا للعدل والحرية في مواجهة مع السلطة فإنها تفيض إلى خالقها عبر الاهمال وفساد السلطة.
في الطريق إلى رابعة وما بعدها
في الطريق وصولا لمذبحة رابعة -الفارقة والكاشفة – وبحسب ما عايش المصريون والعالم، وتم توثيقه من أحداث منذ الخامس والعشرين من يناير شهدت مصر سقوط مئات الشهداء في أحداث الثورة، لتشهد مصر تجددا لأراقه الدماء مرورا بأحداث محمد محمود الأولى في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، ثم ماسبيرو ومجلس الوزراء، والعباسية ثم يتم الانقلاب على الرئيس المنتخب في الثالث من تموز/ يوليو 2013 لتشهد مصر مذبحة بين السرايات فمجزرة الساجدين -الحرس الجمهوري-؛ فرمسيس الأولي ، والمنصورة ثم المنصة في السابع والعشرين من تموز/ يوليو 2013، ليسقط مئات الشهداء والمصابين ولتحط المذبحة الأكثر دموية رحالها في رابعة والنهضة في الرابع عشر من آب/ أغسطس 2013 ليسقط فيها، وبعدها آلاف الشهداء والمصابين ناهيك عن آلاف المعتقلين.
لقد دشنت رابعة مرحلة أكثر دموية عبر مذابح مرت تترى شهدها المصريون و العالم عبر البث الحي المباشر ولتنطلق بعد ذلك مرحلة التصفيات الجسدية، لتصف المنظمات الدولية ما يحدث بأنه الأسوأ في تاريخ مصر؛ حيث انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش وقت أعتماد مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة تقرير مصر للمراجعة الدورية الشامل في 20 مارس 2015 ما وصفته قمعا غير مسبوق ومستمر تمر به مصر الآن لاسيما وأن الحكومة المصرية ومنذ الاستعراض الدوري الشامل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي 2014 ارتكبت انتهاكات أكثر.
لقد كانت فارقة فاصلة
ثلاث سنين منذ رابعة والنهضة كانت كاشفة ومؤكدة لكثير من الحقائق، فقد مثلت المذابح، خاصة رابعة والنهضة تحولا لمعركة الثورة مع الانقلاب العسكري والدولة العميقة من معركة حدود إلى معركة وجود.
بعد أن كانت المعركة معركة حول حدود السلطات والأدوار في إطار معركة التحول الديمقراطي يحاول من خلالها النظام العسكري والدولة العميقة إعادة المنظومة الحاكمة المستبدة إلى السلطة مرة أخرى عبر اجراء يأخذ شكلا ديمقراطيا، فإذا بالنظام العسكري يحولها إلى معركة وجودية صفرية عبر انقلاب خشن كان الشاهد التاريخي عليها والخطوة الفارقة الفاصلة مذبحة رابعة والنهضة.
لقد كان واضحا أن المجزرة لم يكن هدفها فض اعتصام لم يشكل خطرا خلال شهر ونصف ولكنها كانت الوسيلة لأغلاق أي طريق لحل سياسي يصب في استمرار المسار الديمقراطي وقدمت نموذجا دمويا لكسر الإرادة الشعبية يقضى على أي طموحات للإصلاح والتغيير.
ثلاث سنين كيف كانت
ثلاث سنين كشف كثيرا وشهدت أكثر؛ فقد عاشت مصر خلالها انتكاسة وتراجعا غير مسبوق في كل شيء وكشفت حقيقة تراجع الإنسان المصري باختلال منظومة القيم لدي قطاعات من المصريين الذين أسلموا قيادهم وعقولهم لعبث من خلعوا رداء الإنسانية، وتسفلوا غير عابئين بدين ولا أخلاق أو ما تعارف عليه ذوو الفطر السليمة من قيم فولغوا في دماء المصريين وقادوا مصر من تسفل إلى تسفل أدنى منه لتتجه البلاد نحو انهيار تتبدى علاماته وتتأكد إرهاصاته يوما بعد يوم.
لقد عرت مذبحة رابعة والنهضة وما بعدها الكثير وفرزت فرزا واضحا كل شيء في مصر وفي المنطقة، بل والعالم، وكشفت عورات كانت مستورة وفضحت مكنونات خفية، وهدمت أصناما صُنعت لها قدسية تبين أنها لم تكن إلا أصناما من الحلوى أكلها صانعها عند أول لحظة جوع نحو السلطة.
لقد أكدت رابعة زيف دعاوى حقوق الانسان والديمقراطية وأنها بضاعة تتاجر بها المنظومة الدولية، وأن دماء الشعوب وحرياتهم هي الثمن لمصالحها مع نظم استبدادية.
أثبت رابعة وما بعدها أن منظومة العدالة الدولية بصورتها الحالية ليست متجردة ولكنها تدور وجودا وعدما مع مصالح الكبار في هذا العالم و أن مصالح هؤلاء تحددها ثوابت معروفة أحد أهم أركانها صراع حضاري وجشع رأسمالي وفكر صهيوني يحرك الفاعلين الأهم في هذه المنظومة لذلك لن تحصل الشعوب على حقوقها وحقوق شهدائها ولن تتملك أرادتها مالم تدرك ضرورة الاعتماد على ذاتها والتمسك بثوابتها.
ختاما
إن رابعة لم تكن مجرد مجزرة ولكنها كانت كاشفة فارقة فاصلة، وإن أحداث التاريخ لتأكد دوما أن اقوى ما يملكه أصحاب الحق هو الحق ذاته وأن طبيعة السنن الكونية مقتضاها أن صراع الحق مع الباطل نهايته نصر للحق ولكن الحق في حاجة إلى رجال يحسنون الفهم ويجيدون العمل، ولئن تأخر النصر وقتا فلا يعني ذلك انتصارا للباطل ولكن لحكمة تتضح يوما بعد يوم حيث تتطهر صفوف الحق من الأدعياء والمنافقين حتى لا يبقى في صف الحق إلا صفوة من المخلصين، وإن تمدد الباطل لا يعني إلا تهيئة المستقبل لنصر مبين للحق وأهله، لأن الباطل يقيم بنيانه دائما على الافساد وبيد المفسدين لذلك كان الوعد الحق أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
رحم الله شهداء مصر والأمة؛ فرابعة لم تكن مجرد مجزرة مثلت الذروة الدرامية لمعركة فرضتها السلطة ولكنها كانت أكثر من ذلك بكثير