من الانتقادات التي وُجّهت إلى الثورة السورية، أنّ الجناح العسكري يقوده أناس غير مثقفين، وهؤلاء جنحوا بالثورة إلى طابع إسلامي؛ مما أفرغ الثورة من قوّتها، وجعل العالم الخارجي يحاربها…
وبالنتيجة وقع اللوم الجوهري على الجناح العسكري، وكأنّ باقي شرائح المجتمع السوري كانت ملائكة تحارب الطغاة، وأكثر الناس هجوماً هم المثقّفون السوريون…
وهنا سنتناول دور المثقفين السوريين في الثورة السورية، وذلك من خلال النقطتين الآتيتين:
ـ واقع المثقّفين السوريين قبل قيام الثورة.
ـ دور المثقّفين في الثورة السورية.
ـ النقطة الأولى ـ واقع المثقفين السوريين قبل قيام الثورة:
بعد الانقلاب العسكري عام 1963م استلم حزب البعث العربي الاشتراكي مقاليد الحكم في سوريا، وسِمَةُ هذا الحزب أنّه قومي علماني ذو نزعة يسارية، ثم قام حافظ الأسد عام 1970م بانقلاب عسكري سمّاه “الحركة التصحيحية”؛ أي أراد أن يُصحح مسيرة حزب البعث، وبموجب هذا الانقلاب استلم حكم سوريا، وتحوّلت سوريا إلى أكبر ديكتاتورية في الشرق الأوسط…
وهنا يجب أن نبحث عن المثقفين وما حلّ بهم. بالحقيقة بعد انقلاب الأسد على رفاق دربه كان المثقفون ينقسمون إلى الفئات الآتية:
الفئة الأولى ـ الإسلاميون: وقد كان الإسلاميون قبل عام 1970م تيّاراً واسعاً، وله وزن كبير في سوريا، ويأتي على رأس الإسلاميين “الإخوان المسلمين”…
فماذا حلّ بالإسلاميين بعد انقلاب حافظ الأسد !؟
بالحقيقة كان حافظ الأسد بطبيعته العسكرية عدوّاً لجميع المثقفين، لكن كان العدو الأكبر هم الإسلاميين، وعلى رأسهم جماعة “الإخوان المسلمين”، فكان هدفه الأوّل هو القضاء على التيار الإسلامي، ممثلاً بالإخوان المسلمين، وكان يخطط للقضاء عليهم عسكرياً، لذلك بدأ بتنفيذ هدفه من خلال التضييق على دعوتهم، ووضعهم في السجون والمعتقلات، وكان يرفع من هذه الوتيرة باستمرار، حتى استطاع استفزازهم، فحمل فريق منهم السلاح، لكنّ حافظ الأسد انقض على الإسلاميين جميعهم بوحشية عسكرية عجيبة…
فاستطاع اعتباراً من عام 1979م إلى عام 1986م أن يصفّي سوريا من أيّ مثقف إسلامي “حركي”، فقتل عشرات الآلاف من المثقفين الإسلاميين، واعتقل عشرات الآلاف، وهرب من سوريا عشرات الآلاف من الإسلاميين…
فنجح حافظ الأسد بالقضاء نهائياً على “الإسلام الحركي” وشجّع بالمقابل “الإسلام السّكوني” الذي يبتعد عن الإسلام كنظام حياة يحكم الفرد والمجتمع…
ـ الفئة الثانية ـ العلمانيون: لا يقبل حافظ الأسد بمعارض حتى لو كان علمانيّاً، ولو أنّه كان شديد الكراهية للإسلاميين؛ لذلك كان يُضيّق على العلمانيين، ووضع الكثير منهم في السجون، وخصوصاً اليساريين الذين يعتنقون العقيدة الماركسية، وسلك الأسد طرقاً عديدة لإبعادهم عن مركز التأثير والقرار…
ـ الفئة الثالثة ـ المثقّفون المستقلّون: يغلب على هذه الفئة عدم التدخل في الحياة السياسية، فهم أقرب إلى مثقفي “الإسلام السّكوني” من حيث التدخل في الحياة العامة؛ لذلك لم يستقصهم النظامُ الأسدي، ولكنّهم دوماً تحت عين الرّقيب الأسدي…
ـ الفئة الرابعة ـ مثقّفوا الحقبة الأسدية: لقد أدرك حافظ الأسد بحسّه الاستخباراتي أهمية المثقفين وخطرهم في الدولة التي ينشدها؛ لذلك سلك مسلكاً خطيراً في ترويض وتصنيع المثقفين:
أ ـ ترويض المثقفين الذين نضجوا قبل حكمه: سلك الأسد لترويض هؤلاء المثقفين مسلكين: الإغراء بالمكاسب المادية والوظيفية والسياسية، أو بسيف التخويف؛ وقد نجح في ذلك.
ب ـ تصنيع جيل جديد من المثقفين: وهنا برز دهاء حافظ الأسد، فكبار العمر من المثقفين تعامل معهم كما رأينا بالترويض، وهذا لايُديم إمبراطوريته المأمولة؛ لذلك لابدّ من تربية جيل جديد من المثقفين يكون طَوْعَ بنانه…
فماذا فعل حافظ الأسد من أجل ذلك !؟
بدأ بالتربية من سنّ السّادسة حتى مرحلة الدكتوراه، فبدأ بتجربة طلائع البعث، حيث ينخرط الشاب بهذه التربية من سنّ السادسة، وبدأ الأسد بتطبيق هذه الفكرة منذ عام 1976م، حيث اقتبسها من الدول الاشتراكية، ثم في المرحلة الثانية يدخل هذا الطفل في اتحاد شبيبة الثورة حتى يبلغ سنّ الثامنة عشر، ثمّ تبدأ تربية جديدة في المرحلة الجامعية من خلال الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وفي مرحلة الدكتوراه تتم المتابعة بطرق مختلفة.
ولكي يُحقق الأسدُ النجاحَ التامّ في صناعة مثقّف نَمَطي مُطيع… قام بالأمور الآتية:
1 ـ ضمن حافظ الأسد من خلال الدستور الذي أصدره بالسبعينات أنّ حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع، فخرج لنا بفكرة الحزب القائد، وشكّل ما يُسمى بأحزاب “الجبهة الوطنية التقدّمية”، وهي عشرة أحزاب علمانية كرتونية تدور في فلك حزب البعث، وبكلمة أدّق تدور في فلك حافظ الأسد، وظيفتها تمجيد الأسد، ويعطيهم حافظ الأسد مكافآت وظيفية وقيادية، ومنها مقاعد في مجلس الشعب، وبعض الحقائب الوزارية غير السيادية…
2 ـ يُمنع على أحزاب الجبهة الوطنية ممارسة النشاط السياسي في المدارس والجامعات والجيش، فهذه المؤسّسات ملك لحافظ الأسد الذي يملك حزب البعث…
3 ـ يُمنع العمل التدريسي في المدارس والمعاهد والجامعات على أيّ إسلامي حركي أو علماني لم يتم ترويضه؛ لأنّ هؤلاء يُشكّلون خطراً على مشروع حافظ الأسد لترويض وتصنيع المثقفين…
4 ـ لا يُسمح بإدارة مؤسسات الدولة إلا للبعثيين أو أعضاء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أو من المستقلّين الذين تزكّيهم أجهزة المخابرات…
5 ـ لا يُسمح بإكمال الدراسات العليا على حساب الدولة في الدول الأجنبية إلا للطلاب البعثيين، أو أعضاء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أو من الحياديين الذي تزكيهم أجهزة المخابرات؛ لأنّ هؤلاء الطلبة سيعودون أساتذة للتدريس في المعاهد والجامعات…
6 ـ الاستمرار في حالة الطوارئ التي أُعلنت في سوريا عام 1963م على يد البعثيين؛ كي يتمكن الأسد من تصفية أيّ مثقف من دون محاكمات فعلية…وبقيت حالة الطوارئ لعهد الوريث بشار.
7 ـ تسليط أجهزة المخابرات على رقاب المثقفين المصنّعين ومن هو في طريق الثقافة، فكلّ من يشذّ عن نهج حافظ الأسد، مصيره الفصل أو التهميش…
8 ـ تسليط المخابرات على المثقفين المستقلّين وعلى البقية القليلة جداً من الإسلاميين والعلمانيين غير المنساقين للنظام، والسجون يجب أن تكون دوماً مليئة بالمعارضين؛ كي يكونوا درساً حاضراً ومستمرّاً لكلّ من يحيد عن طريق الأسد…
8 ـ توريط هؤلاء المثقفين بالفساد؛ كي يبقوا تحت رحمة الرّقيب…
بهذه الأدوات استطاع حافظ الأسد ووريثه بشار من بعده أن يصنعا خلال أربعين سنة أجيالاً من المثقفين السوريين يمتازون بالأمور الآتية:
أ ـ الولاء للمصلحة الشخصية أو لآل الأسد، وليس للوطن.
ب ـ الفساد الأخلاقي والمالي.
ج ـ غياب المبادئ.
وكنتيجة على واقع المثقفين السوريين نقول: بسبب سياسات حافظ الأسد وأعوانه، تم القضاء على المعارضة السورية الفاعلة من “الإسلاميين الحركيين” ومن “العلمانيين”، ومن نجا منهم فهو في السجون أو يعيش خارج حدود الوطن، وبقي في سوريا الجموع الساحقة من المثقفين الذين باعوا أنفسهم لمصالحهم الشخصيّة أو الحزبيّة الضيّقة أو لآل الأسد الذين لا يرحمون من يعادي مشاريعهم غير الوطنية وغير الإنسانية…!!!
وسيكتب التاريخ أنّ القادة العظماء هم الذين يصنعون الإنسان، وسيكتب بحروف عريضة أنّ حافظ الأسد كان أنجح إنسان في نشر ثقافة الفساد التي تحطّم الإنسان…!!!
وعندما وصل بشار الأسد إلى الحكم الوراثي، كانت نسبة المثقفين من “الإسلاميين الحركيين” هي أدنى نسبة من المثقفين السوريين، والنسبة المخيفة هم من المثقفين المصبوغين بالجينات الأسدية المـُسرطنة…!!!
ـ النقطة الثانية ـ دور المثقفين في الثورة السورية:
وجدنا في النقطة السابقة أنّ الأكثرية الساحقة من المثقفين السوريين هم من ترويض وصناعة التجربة الأسدية في سوريا. والآن لابدّ من الإجابة عن السؤال المحوري: ما هو دور المثقفين في الثورة السورية !؟
بالحقيقة الجواب جِدُّ حزين، فالمثقفون السوريون في عمومهم كانوا سلبيين في الثورة السورية، فالنتائج هي من جنس المقدمات دوماً، ومثقفونا شربوا ثقافة الفساد الأسدية؛ لذلك ساهموا بشكل مباشر بوأد أو تعثّر الثورة السورية من خلال الأمور الآتية:
1 ـ بقي قسم كبير جداً من المثقفين السوريين في أحضان النظام السوري، وهم يُسبّحون بحمد النظام بُكْرَة وعشيّا…
2 ـ قسم من المثقفين نزح إلى خارج سوريا، وخاصة إلى تركيا وأوربا، طلباً للأمان، أو طلباً للمنافع الاقتصادية والاجتماعية، فثقافتهم لم تصنع منهم أهل مبادئ…
3 ـ قسم من المثقفين بقوا داخل المناطق المحررة، ومعظمهم مع الأسف لم ينخرط في صفوف الثورة، فلو أنّك فتّشْتَ عن المثقفين في صفوف الجناح العسكري، فلا تكاد تراهم لندرتهم النادرة…وفئة منهم عملوا بالجوانب المدنية، ومن عملوا بالجوانب المدنية تجد الكثير منهم، فيه لوثة الفساد الأسدية…!!! ومن عمل بالجانب السياسي بالداخل لا تكاد تجد له أثراً أو تأثيرا…!!!
4 ـ قسم من المثقفين الذين يمارسون العمل السياسي في الخارج:
وهؤلاء مزيج من مثقفي الداخل الذين نزحوا ومن مثقفي الخارج، وهم علمانيون من حيث الكثرة، وأقلّية من حيث التوجّه الإسلامي، وهم من حيث العموم مشرذمون، ومتناثرون، ومتصارعون…ولم يستطيعوا أن يُجمعوا أو يتفقوا على مشروع وطني انتقالي، وليس أدلّ على ذلك من فشل المجلس الوطني والائتلاف السوري، وكلّ التجمعات الأخرى التي تمّ تشكيلها؛ بل والأغرب من ذلك أن تجد كثيراً منهم يعمل لأجندات خارجية، أو بتوجيهات خارجية، سعودية أو قطرية أو تركية أو أمريكية أو روسية أو أسدية…
فبالنتيجة فشل المثقفون بالخروج بجسم سياسي يُمثّل الثورة السورية، ولا عذر على الإطلاق للمثقفين في ذلك، ومهما عددنا من الأسباب فلن نجد لهم عذراً…
ومن هنا نقول: صحيح أنّ العسكريين لم يتوحدوا، لكن بالنتيجة لم يقولوا نحن المثقّفون وأصحاب النظريات…لكنَّ المثقفين هم الذين يُنظّرون ويتَّهمون ويُخَوّنون ويُوَزّعون الأخطاء على القاصي والداني؛ لذلك وجب عليهم أن يعلموا أنّهم هم سبب ويلات الثورة السورية الأكبر، فالمثقفون هم بالعادة رأس أيّ مجتمع، فالتغيير يبدأ منهم، والثورة تبدأ منهم، والتضحية تبدأ منهم…لكن مع الأسف الرأس في مجتمعنا يبحث عن مصالحه الشخصية والحزبية والإثنية والطائفية…
وليس غريباً بعد ذلك أن يقول القائلون: أثبت الواقعُ أنّ المثقفين السوريين ليسوا أهلاً للحرّية…
وليس غريباً أن يكتب التاريخ يوماً: المثقّفون هم لَعْنَةُ الثورة السوريّة…!!!