دائمًا ما كانت السياسة بائسة في بلادنا. على نحو ما هي غائبة، لانحصارها قصرًا في طبقة وَرِثَتْ الدولة من بعد انحسار الحقبة الاستعمارية المباشرة، ومقولة “الشيوخ أبخص” الدارجة في الخليج (وهي تعني بالشيوخ أمراء الحكم المنحدرين من زعامة القبائل)، هذه المقولة لها في الواقع ما يرادفها في بقية البلاد العربية، بيد أنها تحوّلت بمرور الوقت إلى تجسيد الوطن في الحاكم.
موقف الحاكم السياسي؛ هو الوطن. اليوم في أي أزمة سياسة يَصعُب على المراقب الذي يعيش خارج المجال الجغرافي لبعض البلاد العربية استقراء موقف الجماهير فيها، لانعدام التداول السياسي وما يستتبعه من مؤسسات سياسية.
يمكن القول إن بعض البلاد العربية يستحيل فيها إجراء استطلاع رأي، أو تأسيس مركز أبحاث مستقل فعلاً في سياساته وعمله عن السلطة السياسية. لقد اضطر أحد مثقفي السلطة في بلد خليجي لحذف استطلاع أجراه على موقع تويتر حينما جاءت نتيجته بما لا يرضي حكامه! ولانعدام الأحزاب، والمؤسسات السياسية، والمراكز البحثية المستقلة، تظلّ مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة وحيدة لمعرفة التنوع الشعبي في الموقف من سلوك الحاكم السياسي.
يمكن أن نسأل اليوم ونقول مستغربين: بداهة هذه المواقع جديدة فكيف بالحال قبلها؟! لكن حتى لا يُعطي هذا السؤال انطباعًا خاطئًا عن قدرة هذه المواقع على إبراز التنوع في الرأي السياسي داخل تلك البلدان، يجدر بنا أن نقرّ، أن تلك المواقع صارت مرآة أخرى لشعار السلطة السياسية البائسة في بلادنا “باقية وتتمدد”، لقد تمكنت هذه السلطة، لا من تكريس البؤس في بلاد بعينها، وجرّه إلى بلاد أخرى كانت أحسن حالاً، فحسب، ولكنها أيضًا اليوم تتمدد إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
بكلمة أخرى، السياسة ممنوعة، وطالما أنها ممنوعة فسيظلّ الوطن هو الحاكم. لاحظوا مثلاً كيف عبّر إعلامي ومُقدّم برامج شهير في قناة فضائية هي الأشهر عربيًّا، عن موقفه من الأزمة السياسية بين بلده وحلفائها وبين الدولة التي تبثّ منها تلك القناة بالاستقالة من القناة قائلاً إن ذلك الموقف “انحياز للوطن”، هذه العبارة تحديدًا، لمن يتابع التغريد من بعض البلاد العربية على موقع “تويتر” يعلم أنها غاية في الابتذال لكثرة استخدامها في التزلف إلى الحاكم، وجعله هو عين الوطن!
ينبغي القول تقييدًا للفقرة السابقة، إن الشكّ عميق في كون ذلك الإعلامي كتب تلك الاستقالة بنفسه، ثمة ما يدفع للظنّ بأنه مكره عليها، وربما كُتبت بالنيابة عنه وهو مُغيّب في مكان ما، لكن هذا لا يُغيّر من حقيقة ما نقول شيئًا، إن السلطة السياسية، “سلطة الشيوخ الأبخص”، تتمدد بالترغيب والترهيب إلى تويتر، تهدّدك بسحب الجنسية، باعتقالك حين دخولك البلد، لأنك تختلف معها في الموقف السياسي، والاختلاف معها هو “اختلاف مع الوطن”!
الإعلامي المقصود، كان يبدو مثقفًا، منحازًا لتطلعات الشعوب، متزنًا ورصينًا، وصديقًا لبعض كبار مثقفي العالم العربي، وهو بحالته هذه لا يؤكّد شيئًا، وإنما فقط يضيف مثلاً جديدًا من بين مئات الأمثلة على ما هو مؤكّد أصلاً، عن عجز المثقف، وقلة حيلته، أو ارتهانه.. إنه يبحث عن منبر، وبلد إقامة، وجواز سفر، وهو لا يريد أن يُسجن ولا أن يجوع.. وهو رهينة ذلك كله.. وذلك كله بيد الحاكم في بلاد لا يملك فيها الإنسان حقًّا أصيلاً، ولا حتى المواطنة، التي يمكن لمحض مزاج الحاكم أن يصادرها منه!
السلطة السياسية وهي تُجبر بشكل ما ذلك الإعلامي المثقف على قول ما لا يعتقده في نَصّ استقالته على تويتر، إلا إذا كان يخدع الجماهير والمشاهدين والقراء طوال السنوات الماضية، لم يفتها إجباره على استخدام الدين على النحو الذي يجعل أمر الله هو عين أمر الحاكم، قال “طاعة لله وولاة الأمر” يستقيل من القناة “انحيازًا للوطن”.. نكتة تدعو للرثاء.
تغييب السياسة لا يعني فقط تجسيد الوطن في الحاكم، بل تحويل الحاكم إلى إله، تمامًا كما بيّن ذلك القرآن بحالة فرعون المعلومة “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”، فرعون الذي قال لهم ذلك، هو نفسه الذي قال لهم: “مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي”، فقط لا يحتاج الحاكم المعاصر من طراز “الشيوخ أبخص” أن يقول “ما علمت لكم من إله غيري”، بل يمكنه أن يفعل ذلك وهو يقول “كما أمر الله ورسوله”.
إن استعباد الناس وحملهم بالفعل والواقع على عبادة غير الله تعالى هو “الحكمة بعينها” في ممالك وإمارات “الشيوخ أبخص”، “وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.
في هذه البلاد التي يُجعل فيها أمرَ الله هو عين أمر الحاكم، بلاد التوحيد التي لا يتحدث دعاتها عن شيء قدر حديثهم عن “توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بالعبادة”؛ لم يَعُدْ يسعُ بعض الدعاة والفقهاء السكوت، فأُنطقوا عنوة في تويتر، أو كتبت أجهزة المباحث والمخابرات بالنيابة عنهم، وصارت شهرة بعضهم وبالاً عليهم، فالشهرة قد تكون في ذاتها تعبيرًا سياسيًّا يأباه الحاكم، أو يغار منه!
وبينما الحاكم يصادر من المجال العام بالتدريج الدين، فإنه يستخدم الفقيه والداعية طبّالين خلف لحنه السياسي، فيحمل “كبار علماء بلده” على قول ما يناقض قول أسلافهم من الهيئة نفسها، فليتناقض الفقيه إذا تناقض الحاكم، وليحمل الحاكم الدعاة المشهورين على قول ما لا يليق بمن يحمل رسالة “الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
ولتمتد يد الحاكم إلى كل داعية أو منبري أو واعظ مشهور وليحطّم فيه بقيّة الكرامة وليمتطيه حتى وإن لم يكن من أهل بلاده.. فتصير بلاد العرب كلها، بلاد “الشيخ الأبخص”، بمنطق السياسة البائسة.. البلاد التي يُذِلّ فيها “الشيخُ الأبخص” “الشيخَ الفقيه” ويمتطيه.
ولا فضل في ذلك لداعية على مثقف على فنان.. كلهم سواء، عبيد الرغبة والرهبة، وموظّفون لدى “الوطن”، أي لدى الحاكم.. أما رأينا كيف أن حلقة من مسلسل تلفزيوني رمضاني أُعدّت على عَجل، ومُثّلت في يوم واحد، لهجاء بلد، وهجاء فقهاء ومثقفين لم يعد “الوطن” يرضى عنهم؟! إنه المثقف المأجور، والفنان تحت طلب الحاكم، تحت طلب “الوطن”!
إن كل من يستقلّ برأي سياسي يُعدّ منشقًّا عن الوطن، وهذه جريمة “الإخوان المسلمين” الذين أُنطق ضدّهم “كبار علماء” بلد ما، وهكذا انعدم أي نمط من السياسة، ولو على مستوى الرأي والفكرة، وآل ذلك بالضرورة لا إلى اختزال “الوطن” في الحاكم فحسب، بل وأيضًا إلى تأليه الحاكم، وهكذا وفي بلاد الدرهم والسوط لم يعد “تويتر” مرآة لأي قدر من التنوع السياسي، وإنما مرآة للرعب، ومرتعًا للجان المباحث الإلكترونية!
لهذا يحاربون “الجزيرة”، لأنها -على كل ما يمكن قوله في نقدها- تُشيع السياسة وتدرّب الناس عليها، ويحجبون المواقع لأنها نافذة للاطلاع السياسي، ويعادون المقاومة الفلسطينية لأنها كانت دائمًا أجلى تعبير عن الفعل السياسي المتحدي، وللطرافة فهذا البؤس يمتد إلى أراضي السلطة الفلسطينية التي بدأت تتعلم حرفة حجب المواقع الإلكترونية!
نعم ما تزال سلطة “الشيوخ أبخص” باقية وها هي تتمدد.. بشكل ما ألقت ظلالها على كل بلاد العرب، وخيمت في تويتر.. وروّضت دعاة ووعاظًّا حتى لو كانوا يخطبون على منبر في مسجد بفيينا.. ثم إنك تعجب، كيف كان يُعوِّل بعض من الإسلاميين على بلاد هذا شأنها!