ما حدثَ في القرنُ الثّامنِ الميلاديّ في سوريا والعراق يكادُ يُطابقُ مَا يحدثُ الآن في القرن الحادي والعشرين في شبه جزيرة العرب.
القاسمُ المشترك هو الظّلم. والنّتيجة الحتميّة، عاجِلًا أو آجلًا، هي الهلاك، والاندثار. والبارز هنا وهناك هو عدم الاتّعاظ، وغياب الورع والتّقوى.
الإيمان باللّه تعالى، وبرسله، وأنبيائه، وكتبه، يتبعه قناعة عميقة بقيمة العدل. هذه القناعة بالذّات هي الّتي جعلتِ المعتزلة يُعبّرون عن إيمانهم باللّه تعالى من خلال انتقاء أروع ما يمّيز ديننا الحنيف: العدل والتّوحيد، ليتسمّوا بهاتين الصّفتين العظيمتين، فأصبح اسم المعتزلة العظام مرادفًا لمصطلح (أهل العدل والتّوحيد)، ومصاحبًا له.
أيّ إنسان مؤمن يستطيع أن يدرك العدالة الإلهيّة من خلال النّظام الّذي ركّبه البارئ تعالى في هذا الكون العظيم، والّذي يقوم على مبدأ العقاب والثّواب. لكل مجتهد نصيب. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرِّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)(الزّلزلة: ٧-٨).
والموضُوع هنا ذو جانبين: الظّالم الّذي سيلقى عقابه، لا محالةَ، ولو بعد حين، والمظلوم الّذي لا يجوز له أن يسكت، لأنّ السّكوت على الظّلم هو أيضًا جريمة قد تعادل جريمة الظّلم نفسها.
في النّصف الأخير من القرن السّابع الميلادي، ومطلع القرن الثّامن الميلادي، كان الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان (توفّي سنة ٧٠٥م) يقتل معارضيه بلا رحمة. وتحكي كتب التّاريخ عنه أنّه قتل معارضًا له يدعى عمرو بن سعيد، وألقى برأسه على جموع أتباعه، ثمّ هتف هاتف قائلًا: «إنّ أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السّابق والأمر النّافذ»!! (انظرِ: ابنَ قتيبة، الإمامة والسّياسة، المجلّد الثّاني، ص٢١).
وبعكس أدعياء (السّلفيّة) المزعومين في عصرنا هذا الّذي يقودون حربًا وهميّة ضدّ مشاكل ظهرت قبل قرون، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء إيجاد حلول لمشاكل عصرنا هذا، أنتجت مظالم الأمويّين أقوى حركة فكريّة في تاريخ الإسلام وهي الحركة الّتي قادها كبار مفكّري المعتزلة العظام الّذين واجهوا تحدّيات عصرهم، واجتهدوا في تقديم حلول لها. وهي حلول قد يتّفق البعض معها وقد يرفضها. ولكنّ القاعدة في الإسلام هي أنّ المجتهد المصيب له حسنتان، والمجتهد المخطئ له حسنة واحدة. أمّا الظّالم، القاتل، المتقاعس، فلن يجد إلّا سعير جهنم.
توالتِ الأحداث بسرعة رهيبة. وتمادى بنو أميّة في مظالمهم. حسبوا أنّ التّقتيل سوف يصيب النّاس بالذّعر ويجعلهم يخضعون غصبًا لاستبدادهم، تمامًا مثلما يحدث اليوم في كثير من مجتمعاتنا العربيّة.
واستمرّت سياسة إرهاب المعارضة هذه في عصر الخليفة الأمويّ هشام بن عبد الملك (المتوفّي سنة ٧٤٣م)، حيث تحكي كتب التّاريخ أنّ عامله على العراق يوسف بن عمر الثّقفيّ قد بعث إليه برأسِ زيد بن عليّ، فما كان منه إلّا أنّ أمرَ بإخراج جثّته، وصلبه، ثمّ حرقه !! (انظر: كرم ملحم كرم، صقر قريش، ص٥ وما بعدها).
تراكمت المظالم، وازداد القمع، وعمّ القهر، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(فُصِّلَتْ: ٤٦).
وفي موقف معبّر عن هواجس الظّلمة، وما يستشعرونه من عقاب إلهي محتوم، نشاهد الخليفة الأمويّ سليمان بن عبد الملك (توفّي سنة ٧١٧م) وهو يكاد يتنبّأ بقرب زوال حكم الأمويّين:
«صفا الجوّ لسليمان بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك، وانصرف إلى الشّرب. وبينما كان يتلهّى به بحيثُ أنّه كان يشربُ بالرّطل ومعه ندماؤهُ، فتوسّد وتوسّدوا أيديهم، فانتبه سليمان مذعورًا، وهزّ أحد ندمائه. فقال له: ما شأنُ الأمير؟ فقال: على رسلك، رأيتُ وكأنّي في مسجد دمشقَ، وَكَأنّ رجلًا في يده خنجرٌ، وعليه تاجٌ أرى بصيصَ ما فيه من جوهرٍ، وهو رافع صوته بهذه الأبيات: (أبني أميّة قد دنا تشتيتكم-وذهاب ملككم وأن لا يرجع) … وعجبَ النّديمُ من حفظِ سُليمانَ الشّعرَ، ولم يكن من أصحابِ ذلكَ. فقالَ سليمان: (بعيدٌ ما يأتي به الزّمانُ قريبٌ). ولم يجتمع منذ ذلك الحين على شرابٍ. وما طال أمره حتّى توفّي، وخلفه عمر بن عبد العزيز، ثُمّ يزيد الثّاني، ثُمّ هشام بن عبد الملك، وامتدّ ملكه حوالي عشرين عامًا، وخشي الغدَ وما يأتي به. فراح يستجلي الغيبَ، فدعا أخاه مسلمة بن عبد الملك، ليكشفَ له الطّالعَ. وغاص مسلمة في التّفكير، وصاح به هشام: (ما بكَ؟) (الغد لا يبعثُ على التّفاؤل، يا أميرَ المؤمنين). فارتعش هشام وقال: (ماذا ترى؟) (لا أرى دولةً ثابتةَ الدّعائمِ، وليست ميمونة الطّالع. ولم يبقَ لنا فيها رجاء، يا أخي). وراع هشام ما يسمعُ …».
وسرعان ما سقطتِ الدّولة الأمويّة سنة ٧٥٠م، وقامت على انقاضها الدّولة العبّاسيّة. والملفتُ للنّظر أنّ الحكم الأمويّ في الأندلس لم يتّعظ بما حدث للأمويّين في المشرق العربيّ، بل اتّسم هو الآخر بالمظالم، والشّقاق، والقمع، والقهر، والاستبداد، فكان لابدّ أنْ تنتهي أمجاد العرب في الأندلس، ليس بسبب قوّة الكاثوليك، بل بسبب ضعف العرب المسلمين الّذين صدق عليهم القول (إنّ الغبيّ عدوّ نفسه).
وعندما سقطت غرناطة في يناير سنة ١٤٩٢م، لم يجد بنو أميّة إلّا الدّموع، ليعبّروا عن حزنهم على ضياع الملك، وزوال العزّ: (أمّا سلطان غرناطة السّابق، فلمّا وصلَ إلى مرقب عالٍ على مسافةِ مرحلتينِ من المدينة، يشرفُ عليها، وقف يودّعُ مدينته. فلم تكن في عينه أجمل منها في تلك السّاعة. فأخذ يتأمّل في أبراجها وقلاعها ومنائرها الضّاربة في السّماء، ومرجها النّضير والمنقطع النّظير. ووقف وراءه حاشيته وجنده الّذين لم ينفصلوا عنه، وهم يتأمّلون سكوتًا قد أبكمهم الحزنُ وأخرسهم الهمّ. وإذا بالدّخّانِ قدِ ارتفعَ فوق القلعة، ودوي صوتُ المدافع إيذانًا بأنّ المدينةَ دخلتْ في حوزة الإسبانيول، وانقطعت منها دولة الإسلام. فعندها خفق فؤادُ أبي عبد اللّه، ولم يملكْ نفسَهُ دونَ البكاء، فصاح: اللّه أكبر. وفسح مجال الدّمعِ. واستمطر ماء العيونِ. فجادتّ بالشّآبيبِ. فقالت له أمّه عائشةُ الْحرّةُ المشهورة بالشّدّة: (عليك أن تبكي بكاء النّساء، ما عجزتَ أنْ تدافعَ عنه دفاع الرّجالِ). وهي الكلمة الشّهيرةُ الّتي تناقلتها جميعُ التّواريخ»(انظر: شكيب أرسلان، خلاصة تاريخ الأندلس، ص٢٨٥).
انشقاق الأسرة الحاكمة في السّعوديّة، والصّراع الدّاخليّ الّذي أضعفها، والإصرار على معاداة الدّيمقراطيّة، والتّشبّث بوجهات نظر تجاوزها الزّمان، وعدم الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة، وحكم النّاس بالنّار والحديد، كلّ هذا يعني ضمن ما يعني أنّ حكّامنا لا يتّعظون، ولا يتعلّمون من التّاريخ، بل ويصمّمون على تكرار الأخطاء نفسها، وعلى الاستبداد نفسه، والقمع نفسه، والنّتيجة المنطقيّة ستكون هي نفسها بالطّبع.
ونختم كلامنا هذا بمقطع ورد في دراسة «ثورة مصر المجيدة والمقاييس العالميّة للأخلاق»:
وذكر الطّرطوشيّ في «سراج الملوك» أَنَّ الظّلم ومحاباة الفسدة من أهمّ ما يؤدّي إلى زوال الممالك: «سئل بزرجمهر: ما بالُ مُلكُ آل ساسانِ صَارَ إلى مَا صَارَ إليه بَعْدَ ما كَانَ فيه من قوّةٍ وسلطانٍ وشدّةِ الأركانِ؟ فقال: ذلك لِأَنَّهم قلّدوا كبارَ الأعمالِ صغارَ الرّجالِ. وعن هذا قالتِ الحكماءُ: موتُ ألفٍ مِنَ العليةِ أَقَلّ ضررًا مِنَ ارتفاعِ واحدٍ مِنَ السّفلةِ. وفي الأمثالِ: زوال الدّولِ باصطناعِ السّفل». دعونا نتأمّل تقريب المخلوع لسفلة القوم، وإقصاءه لخير أبناء مصر. دعونا نراقب ما يرتكبه العسكر من جرائم حين يقومون بتعيين واحد منهم محافظًا للوادي الجديد، برغم أنّه لا يصلح أن يكون محافظًا لحارة من حواري مصر: بدون مؤهلات، وبدون شهادات، وبدون علم، وبدون فكر، وبدون خبرات. كلّ بضاعته بدلة عسكريّة مزركشة بالألوان المختلفة، يخفي وراءها عجزًا، وجهلًا، وغباء. دعونا نتأمل حرص العسكر على إقصاء إعلاميّين مصريّين محترمين، من أمثال مجدي حسين، أو حمدي قنديل، وتفضيلهم للصّعاليك من أمثال هيكل، وأسامة سرايا، وعبد اللّه كمال. قالتِ الحكماء: «أسرعُ الخصالِ في هدمِ السّلطانِ وأعظمها في إفسادِهِ، وتفريق الجمعِ عنه، إظهار المحاباة لقومٍ دون قومٍ، والميل إلى قبيلةٍ دونَ قبائل، فمتى أعلن بحبِّ قبيلة، فقد برئ من قبائل. وقديما قيل: المحاباة مفسدة …وقال مهموت الموبذان: من زوالِ السّلطانِ تقريبِ مَن ينبغي أن يُباعد، ومباعدة من ينبغي أن يُقرّب، فحينئذٍ حان أوان الغدرِ».
وأوردَ الطّرطوشيّ بجانبِ الظّلم صفاتٍ أخرى تُسرع في زوال الممالك، فقال: «وَمِنَ الصّفاتِ الّتي لا تقومُ معها المملكةُ: الكذب، والغدر، والخبث، والجور، والسّخف. وقد قالتْ حكماءُ العرب والعجمِ: ستّ خصالٍ لا تغتفر مِنَ السّلطانِ: الكذب، والخلف، والحسد، والحدّة، والبخل، والجبن، فَإِنَّهُ إن كان كذّابًا لم يوثق به في وعده ولا بوعيده، فلم يُرجَ خيره، ولم تُخف سطوته، ولا بهاء لسلطانٍ لا يرهب». وَأَشَارَ القدماءُ إلى أنّ الحاكمَ العادلَ لا يخشاه إلّا الفسدة الفجّار، والحاكم الظّالم لا يكشّر عن أنيابه إلّا للأخيار: «وفي حِكَمِ الهند: أفضل السّلطانِ من أمنه البريء، وخافه المجرم. وشرّ السّلطانِ من خافه البريء، وأمنه المجرم … وقال عمر للمغيرة لمّا ولّاه الكوفة: يا مغيرة، ليأمنك الأبرارُ، وليخفك الفجّار»».
والظّالمُ ابتلاه اللّهُ تعالى بعمى البصيرة، فهو يتوهّم أنّ هذه الحياة الدّنيا ستدوم له إلى الأبد، وغاب عنه أنّها حياة فانية، وفترة محدودة، وعمر محسوب، لا ينبغي للمؤمن الصّحيح أن ينخدع بمحاسنها، ويغترّ بمفاتنها، لأنّها – كما وصفها القدماء – مثل الكنيف: «لو كانتِ الدّنيا كلّها ذهبًا وفضّة، ثُمّ سلمت عليك بالخلافة، وألقت إليك مقاليدها وأفلاذ كبدها، ثُمّ كَانَتْ طريدةً للموتِ، ما كَانَ ينبغي لكَ أن تتهنأ بعيشٍ، لَا فخرَ فيما يزولُ، ولا غنًى فيما يفنى. وَهَلِ الدّنيا إِلَّا كَمَا قَالَ الأوّل: قدر يغلي وكنيف يملأ؟ وَكَمَا قَالَ الشّاعرُ: ״وَلَقَدْ سألتُ الدّارَ عَنْ أخبارهم فتمايلت عجبًا ولم تبدي حتّى مررت على الكنيفِ فقال لِي أموالهم ونوالهم عندي״»».
ويشيرُ الطّرطوشيّ إلى أنّ القدماء كَانوا يسمّون الدّنيا «خنزيرة»، عندما أدركوا أنّها حياة فانية، ورحلة عابرة: «وقد وصف اللّهُ تعالى الدّنيا وأهلَهَا بصفةٍ أَعَمّ من هذه الصّفة، فقال سبحانه وتعالى:
(اعلموا إِنَّمَا الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجبَ الكفّار نباته، ثُمّ يهيجُ، فتراه مصفرً، ثُمَّ يكونُ حطامًا، وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ(
(الحديد: 20). والكفّار ها هنا الزّراع، فكما أنّ الزّرعَ أوّل نباته خضرًا ناعمًا اهتزّتِ الأرضُ به، بعد يبسها، فجاءت في العيونِ كأملح ما يكونُ، ثُمّ يهيجُ، فتراه مصفرًا، أيْ يكبر ويستوي، فيجفّ ويحترق وينتكس أعلاه، ويستقل بسنبله، ثُمّ يُداسُ، فيكونُ حطامًا، أي تبنًا متقطعًا متكسرًا. وهذا مثلٌ ضربه اللّه تعالى لبني آدم، إذ كَانوا أطفالًا أوّل الولادة، وفي حال الطّفوليّة كأحسن مرأى، يعجبونَ الآباء، ويفتنون ذوي الأحلامِ والنّهى، ثُمَّ يكبرونَ فيصيرونَ شيوخًا منكّسة رؤوسهم، مقوّسة ظهورهم، قد ذهب حسنهم ونعومتهم، وفنى شبابهم وجمالهم، وذوت غضارتهم ونضارتهم، فاستولى عليهم الهرمُ واليبسُ، ثُمّ يموتونَ، فيصيرونَ حطامًا في القبور كالتّبن في الجرين. هذا بعدما وصفها بخمسِ خصالٍ مذمومة: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر. وَكَانَ الصّدر الأوّل يُسمّي الدّنيا خنزيرة، ولو وجدوا اسمًا أقبح منه، لسمّوها به، وَكَانُوا يسمّونها أم ذفر، والذّفر: النّتن». (72-73).».