خلف مشهد الموت والدمار في قطاع غزة، خلف ركام المنازل والمؤسسات والمساجد، وخلف أشلاء الأطفال والجثث المتكدسة في الطرق وممرات المشافي، ثمة انتصار كبير حققته قوات المقاومة الفلسطينية وصمود الشعب بكل فئاته. بمساحة لا تزيد عن 360 كيلومتراً مربعاً، وزهاء المليونين من السكان، يعتبر قطاع غزة أصغر منطقة يتمركز فيها شعب عربي، وأحد أكثر بقاع الأرض ازدحاماً. أحاط الإسرائيليون القطاع الصغير، المزدحم، بمئات الدبابات والسيارات المصفحة، أغلقوا ساحله بعشرات السفن والزوارق المسلحة، وحجبوا فضاءه بالطائرات.
وعلى مدى أربعة أسابيع، قصف المكان والسكان معاً بآلاف الأطنان من المتفجرات، في عملية قتل وتدمير منهجية قلما شهد العالم لها مثيلاً، عملية أشبه بواقعة قصف درسدن في الحرب الثانية، والقصف الأمريكي لفيتنام، وحرب نظام الأسد ضد شعبه في سوريا. ولكن القطاع لم يسقط، ولا أعلن الاستسلام. ما يقوله البعض من أن حكومة نتنياهو لم تخطط أصلاً لاقتحام القطاع وتدمير المقاومة، يمثل قراءة غير صحيحة. ظلت وسائل الحرب تتغير طوال الأسابيع الأربعة، وهددت القيادة السياسية الإسرائيلية أكثر من مرة بتطوير الهجوم على القطاع وتوسيع نطاق الحرب. ما منع الإسرائيليين من محاولة (محاولة، وحسب) إعادة احتلال القطاع كان ما أدركوه من أن تكاليف مثل هكذا خطوة ستكون باهظة، وبلا نهاية.
لم يكن لدى الحكومة الإسرائيلية من هدف واضح عندما بدأت العدوان الدموي والمدمر على غزة، والأرجح أن نتنياهو ظن أن الحرب على القطاع ستكون شأناً يسيراً، يؤكد فيه تحالفه الجديد مع المعسكر العربي المناهض لحركة الثورة والتغيير والمعادي للتيار الإسلامي، وأنه في هذه المناسبة، أيضاً، سيمارس عملياته الدورية في تحجيم قوى المقاومة واستنزافها، ويؤكد موقعه لدي دوائر اليمين الإسرائيلي. ولكن قوى المقاومة كانت تتوقع الحرب وتستعد لها من اليوم الذي انتهت فيه الحرب السابقة. وفي واحدة من أبرز حلقات حروب الفقراء، المحاصرين، وقفت ثلة من شباب قطاع غزة أمام آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة، مظهرة شجاعة غير مسبوقة، ومهارة قتال عالية، وإرادة لا تكسر. فشل الإسرائيليين الفادح في الأسبوع الأول من الحرب في تحقيق إنجاز ملموس في مواجهة المقاومين، أو التعرف على مواقع إطلاق الصواريخ، وخسائرهم الباهظة، التي لم تكشف كل تفاصيلها بعد، أفقد القادة الإسرائيليين صوابهم، ونقل الحرب إلى مرحلتها الثانية.
في هذه المرحلة، التي بدأت ملامحها في التبلور منذ رفضت المقاومة الورقة المصرية في الأسبوع الثاني من الحرب، لم تعد الحرب حرباً بالمعنى المفهوم، بل مجرد قصف هستيري، قصد به إيقاع أكبر قدر من الألم بأهالي القطاع ومؤسساته وبنيته التحتية. إعلان نتانياهو في الأسبوع الثاني بأن هدف حربه بات تدمير الأنفاق ليس سوى تضليل رخيص، لا يجب أن يأخذه أحد مأخذ الجد، لا في الاعتبارات السياسية ولا العسكرية. ليس هناك دولة في التاريخ الحديث استدعت عشرات الآلاف من احتياطيها العسكري، ونشرت مئات الدبابات وناقلات الجنود والطائرات، لتدمير عدة أنفاق في الجانب الآخر من حدودها مع بقعة صغيرة مثل قطاع غزة؛ أنفاق ليس من الصعب أن يعاد بناؤها، وأن يصبح عددها أكبر بكثير، خلال أسابيع من نهاية الحرب. الحقيقة، أن الحرب في مرحلتها الثانية لم تعد حرباً، بل مجرد جريمة دموية لإقناع الحلفاء العرب (وربما الرأي العام الإسرائيلي) أن الدولة التي قامت بحد السيف وقوة السلاح لم تزل قادرة على استخدام العنف وزرع الموت والدمار؛ أنها حليف يمكن الاعتماد عليه والاعتداد بقوته. والثمن؟ ليس ثمة ثمن من وجهة نظر رجال الدولة الإسرائيلية. ما دام باستطاعتهم نشر الموت والدمار، وما دام العالم يفتقد الإرادة لإيقافهم أو معاقبتهم، لا يكترث الإسرائيليون لدماء الفلسطينيين، ولا يكترثون بصورة خاصة لدمار قطاع غزة. في تصور أغلب النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، الهدف الرئيسي لا بد أن يكون الضفة الغربية، والتوصل يوماً إلى وسيلة لضمها للدولة العبرية، بأقل عدد ممكن من سكانها العرب. أما قطاع غزة، فسيقذف به وأهله يوماً في وجه «المجتمع الدولي».
وهنا تقع الدلالة الكبرى لانتصار غزة وفشل حكومة نتنياهو البالغ. في هذه الحرب المريرة، انتصرت غزة بالرغم من الخلل الهائل في ميزان القوى السياسي، والخلل عربياً على وجه الخصوص، ولابد أن يكون انتتصارها بالتالي مقدمة لبناء توازن قوى جديد. لم يشجع الخلل في ميزان القوى العربي نتنياهو على العدوان، بل كان هذه المرة شريكاً فعلياً في العدوان؛ لأن الحرب الثالثة على غزة كانت حلقة وثيقة الصلة بالحرب التي تتقدمها دول عربية على التيار الإسلامي وحركة الثورة والتغيير في المجال العربي. كما أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، لم تستطع حركة الثورة في 2011 حسم المعركة على مستقبل العرب وروحهم، بالرغم من عشرات الملايين الذين حملوا راية التغيير وحجم الإنجاز الذي أحدثوه. وسرعان ما تحول حلم التغيير إلى واقع من الحرب العربية الأهلية، حرب اندلعت من الماء إلى الماء، لم تترك وسيلة وأداة من وسائل الحرب إلا واستخدمتها: المال والسلاح، التآمر والإعلام، الانقلابات والخيانة، والتعويل على سذاجة البعض والإيمان الأيديولوجي الأعمى للبعض الآخر. لم تخض قوى الثورة المضادة هذه الحرب من أجل حماية نفسها، ولا حتى من أجل فرض معادلة جديدة في الإقليم؛ خاضتها في الحقيقة بهدف استئصال الخصوم، لا أقل من ذلك.
وليس ثمة شك أن الثورة العربية المضادة، سواء مثلتها أنظمة سلالية، ثرية، أصابها هلع التغيير في الجوار، أو قوى طائفية لم تستطع التحرر من عقد الأقلية وأوهام التفرد، حققت إنجازات ملموسة في 2013، عندما نجحت في إيقاف حركة التغيير في بعض البلدان، في تعطيلها، أو حتى في ردها إلى الخلف. ولكن، وكما كل ثورة مضادة في التاريخ الحديث، أسكرت النجاحات المبكرة أصحابها. وكما في كل الحروب الأهلية، لم ير هؤلاء أن قوى التغيير تمثل لحظة تاريخية بأكملها، إرادة وقدراً، وليس بشراً وأحزاباً وجماعات وحسب. بدا للوهلة الأولى أن لا سبيل لإيقاف رياح الشر والردة والأنانية. ولكن قوى الثورة لم تستسلم. في بلدان، لم تزل الملايين في الشوراع، تعيد التوكيد على مطالبها في الحرية والحياة الكريمة. وفي بلدان، نجح التراجع خطوة أو خطوتين إلى الخلف في الحفاظ على مسيرة التغيير، وإن ببطء. وفي بلدان أخرى، رفعت قوى الثورة السلاح وقررت الدفاع عن الثورة والشعب، مهما كانت التضحيات.
بيد أن غزة الصغيرة، في ذلك اليوم من تموز/ يوليو ، أصبحت الساحة المكثفة، الصغيرة، الميكروكوزم، التي التقت عندها كل ساحات الثورة العربية. عندما بدأت الدبابات في إلقاء حممها، والطائرات في إسقاط قذائفها، لم تعد غزة هي غزة وحسب، بل أصبحت غزة ورابعة وحمص والقصير وحلب والفلوجة والحويجة وطرابلس وبنغازي والقصرين وتونس وتعز وأب، معاً. في ظل توازن قوى مختل، وقفت غزة وظهرها إلى الحائط لتصنع توازن قوى جديداً، وتؤكد على أن وعود حركة الثورة العربية لم تزل حية، وأن أشواقها لم تزل تحلق في سماء هذا المجال العربي الفسيح.