من الآثار الهامشية للثورة البلشفية في روسيا أنها أدت إلى تسريب الاتفاق التاريخي بين بريطانيا وفرنسا حول تقسيم أراضي العرب الذي عرف باتفاقية سايكس بيكو، لكن هذه الفضيحة لم تحل أبدا دون أن تمضي الاتفاقية في تحقيق غايتها، لسبب بسيط: أنه سواء علم المعنيون بها أم جهلوا فإنهم كانوا أعجز عن فعل شيء إزاءها.
ليس من شك في أن أطراف الاتفاقية كانوا يفضلون بقاءها سرا، إلا أن خروجها إلى العلن وإن تسبب في مضايقات لم يتسبب في تعطيلها وتعويقها!
هما إذن معركتان: معركة الوعي، ومعركة السلاح!
فليس أفشل من القوي الغبي إلا النبيه العاجز، ولربما كانت حسرة هذا الأخير أضعافا مضاعفة، فهو يرى ويسمع ثم يعجز! فتنفذ فيه إرادة عدوه دون أن يستطيع لها ردا!
ومن هنا احتاجت الأنظمة الفرعونية دائما إلى فئتين: الكهنة (أو السحرة) والجنود! فهؤلاء يفسدون الوعي ويستعبدون الناس للفرعون، وأولئك يقفون بالمرصاد لمن نجا وعيه واستطاع أن يفهم ما يحاول الإعلام تزييفه.
ومن هنا كذلك كان قوام الدين– كما قال ابن تيمية- كتاب "يهدي وسيف ينصر"! وكان نبينا الذي أرسله الله رحمة للعالمين داعية مجاهدا، رسالته تدفع الناس نحو التفكر والتأمل والتعقل والنظر، ثم تدفع من آمن منهم إلى أن يجاهدوا الباطل بأنفسهم وأموالهم، وإلا أهلكتهم جيوش الباطل (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة).
ولذلك فإن كل حركة إصلاح لا تنتبه للأمرين معا فإنها تفشل أو تُوَظَّف، فإما أصابها غلوٌّ يفضي بها إلى أن تكون كالثور الهائج لا يفرق بين عدو وحبيب، أو أصابها تفريط يجعلها كالفريسة المخدوعة يتآمر القوم على ذبحها وتقسيمها فلا تعطيهم من نفسها إلا نظرة المحب الشفوق، ولربما استغاثت من عدوها بعدوها فلم تفق إلا لحظة ذبحها، وكان آخر ما طالعته: ضحكة ساخرة شريرة!
هذا الانقلاب العسكري في مصر خير مثال!
إذ لم يكن يستطيع السحرة والكهنة أكثر من شحن النفوس بالغضب، وإخراجهم في حشود، ثم تصويرهم، وما كاد الليل أن ينقضي حتى انفض السامر! وفرغت الشحنة وعادت الحشود إلى البيوت.
وهنا استلم الجنود الزمام، فخرجوا يترجمون هذه الحالة إلى وضع جديد وواقع جديد، وبالسلاح وحده سفكوا الدماء وسيطروا على البلاد ونهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض، ولا تسل عن شرعية، فالشرعية هي السلاح!
لم يكن أحد الجناحين ليستطيع التخلي عن الآخر، وبذات القدر، لن تتمكن حركة مقاومة الانقلاب من إسقاطه بأحد الجناحين دون الآخر.