كل باحث في تاريخ الأنبياء يعرف أنهم بُعثوا لتعبيد الناس لله وحده دون غيره، وهذه هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق كما جاء في الذاريات "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وذلك هو الشعار الذي هتف به سيدنا ربعي في قصر كسري بن هرمز لما سأله كسرى ما جاء بكم؟ فرد: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"، وهذا ما طبقه رسول الله يوم فتح مكة لما شرع في هدم الأصنام على أرض الواقع بعدما هدمها في نفوس المسلمين وهو يردد على مسامع الدنيا: "وقل جاء الحق وزهق الباطل" يومها ظن الناس أن عبادة الأصنام والأوثان انتهت بلا عودة وأنه لا مكان في قلوب المسلمين بعد اليوم لصنم ولا وثن.
لكن الحقيقة أنه متى اختل الإيمان احتل القلبَ الصنمُ، وأن الأصنام ليست أشكالاً صخريةً صلبةً وفقط، وإنما تتعدد أشكالها وتختلف باختلاف الزمان، فتارة تكون الأصنام موضة خليعة، أو وظيفة مرموقة، أو زوجة حسناء، أو هوى متبعًا، أو شهوة مشتعلة، أو تكون في حاكم طاغية يقهر الناس بسيفه، ويجلدهم بسوطه، فيخضع الناس له عن ضعف، ويستسلمون له عن مذلة، حتى يسيرون في غابته قطيعًا من الغنم يذبح ما شاء وقتما شاء.
ومع تطور الزمان وتقدم الدنيا كان لابد أن يتطور شكل الأصنام وتتجدد عبوديتها فخرجت من نطاق الأصنام الفردية إلى الأصنام المؤسسية في عملية ممنهجة خلال عقود من الزمن في ظل غياب لجوهر الإسلام وسلامة فهمه عن واقع المسلمين.
لقد لجأ الاحتلال إلى غرس الأصنام المؤسسية في القلوب قبل إنشائها في واقع الشعوب، من خلال أحداث مصطنعة بحرفية؛ جعلت الناس يهتفون بها ويعتقدون فيها.
وبعد موجات الربيع العربي – التي عصفت بالشكل القديم "الأصنام الفردية" فأطاحت بحكام ظلمة، وبدأت تتكون مؤسسات ثورية جديدة باختيارات الشعوب – كان لابد على الشيطان الأكبر أن يواجه بالأصنام المؤسسية.
ومن هذه الأصنام المؤسسية تلك التي أوهمت الشعوب أنه لا دين لمن لم يتعلم بين جدرانها، ويتتلمذ علي يد أساتذتها، ولا يؤخذ الإسلام إلا منها، ولا حلال إلا ما أحلت، ولا حرام إلا ما حرمت.
تتهم كل من خارج أسوارها بالضلال ولو كان أتقى الناس، وتُنزل من تَخرّج منها منزلة الأولياء ولو كان أحط الناس، حتي صار أغلب العوام يعتقدون بها ولا يؤمنون بغيرها، رغم يقينهم وعلمهم بأن أغلب القائمين عليها مفسدون إلا من رحم الله، كما كان يؤمن المشركون قديمًا بالأصنام رغم علمهم بحقارتها وضعفها.
الأصنام المؤسسية تلك التي أقنعت الناس بعمل دءوب ممنهج أنها حامية البلاد والعباد، وكل من ارتدى زيها هو الوطني الشريف، ومن خلعه صار وضيعًا خائنًا، أوهمت الشعوب بأنه لولا وجودها لاجتاح العدو أرضها ولانتهك أعراضها، فأنفقت الشعوب عليها من أموالها واقتطعت لها من أقواتها، ولو سألت عن من يلتحق بها كيف التحق لعلمت أن الرشوة طريقها، بعدما يتوافر لأهلك مركزًا اجتماعيًا مرموقًا يؤهلك لأن تكون فوق الشعب متعايلاً، تنظر إليهم من فوق السحاب، فلما اكتشف الناس حقيقتها، وتبين لهم أنها حامية الفسدة وزريعة الخونة، أرادوا أن يظهروا مجرد الاعتراض على خيانتهم والتنصل من قسمهم بحماية الوطن وسلامته، فما كان إلا أن استقبلوا بصدورهم الرصاص الذي دفعوا ثمنه من جيوبهم وقوت أبنائهم.
الأصنام المؤسسية تلك التي احتكرت القانون تخدم به من تشاء، وتعدم به من تشاء، بعدما أوهمت الناس أنها هى القانون والقانون هي، علّمتهم القاعدة المقدسة -لا تعليق علي أحكام الأصنام- رغم علمهم أن الأحكام جائرة، والأصنام ظالمة، ويا ويل من يعلق على الأحكام فمكانه في السجن محجوز وتهمته جاهزة "إهانة الذات الصنمية"، ويا حسرة من يستفيق ضميره في هذه المؤسسة فينطق بالحكم ويحكم بالعدل.
كل تلك الأصنام المؤسسية وغيرها ما كان لها أن تترسخ في نفوس الشعوب حتي يعتقدوا فيها إلا من خلال سحرة، استرهبوا الشعوب وسحروا أفئدتهم وعقولهم وأبصارهم، فكانت مؤسسة السحر الإعلامي للأصنام؛ تبث سمومها، وترتل ترانيمها، وتُنزهها عن كل نقيصة، وتُجلها عن كل عيب، وتُزين للشعوب عبوديتها.
يبقى شيء واحد؛
أن كل تلك المؤسسات الصنمية يجمعها عامل مشترك اسمه "الفساد"، وتطبق قاعدة مشتركة "لا يجلس مكان الصنم إلا ابن الصنم"، هذا ما أقره الشاويش عطية في أفلامه الساخرة عن إحدى تلك المؤسسات وهو يقول لاسماعيل يس "يا صنم يا ابن الصنم".