بعد المصالحة القطرية المصرية الوشيكة بوساطة (أو ضغط) خليجية، تصاعدت الأسئلة حول إمكانية تغير موقف تركيا من النظام في مصر، والمدى الذي يمكن أن يصله هذا التغيير إن حصل، ومستواه، وتوقيته.
والواقع أنني أرى أن ذلك ممكن، وربما قريب – وليس قريباً جداً – ولكن بسقف معين وبسياق محدد، سأوضحه في نهاية المقال.
بوسع المراقب التخمين أنه تجري منذ فترة – تحديداً بعد انتقال اردوغان من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية – مراجعة تركية جدية وعملية جرد حساب للسياسة الخارجية فيما خص أحداث وقضايا المنطقة تحديداً. ويبدو من عدة إشارات، كان آخرها على لسان نائب رئيس الوزراء بولند أرينتش، أن تركيا تعيد حساباتها بخصوص مصر والعلاقة مع دول الخليج تحديداً .
ولذلك – برأيي – عدة أسباب، أهمها:
أولاً، نجاح نظام الانقلاب في مصر في تثبيت أركانه من خلال القبضة الأمنية في الداخل، والدعم الخليجي المالي إقليمياً، والقبول الدولي. فأصبح الانقلاب أمراً واقعاً، تتعامل معه كافة الدول، وتركيا لا تريد أن تكون الاستثناء هنا بما يزيد من عزلتها السياسية.
ثانياً، التبعات الاقتصادية، فقد بنت تركيا تجربتها على أساس التنمية الاقتصادية التي اعتمدت على الانفتاح على العالم العربي من خلال البوابة السورية براً (وقد أغلقت)، ثم البوابة البحرية عبر مصر، التي ألغت الاتفاقية مؤخراً، فضلاً عن فواتير اقتصادية أخرى تتدفعها أنقرة فيما خص إيواء اللاجئين السوريين، أو دعم المعارضين من عدة دول، أو سخونة الأوضاع في العراق وسوريا، أو "الحرب على الإرهاب".
ثالثاً، العزلة الدولية التي تعانيها تركيا منذ فترة، على خلفية مواقفها عالية السقف من قضايا المنطقة تحديداً، وعلى رأسها سوريا ومصر. ويبدو أن أنقرة تستشعر أن هذه العزلة تتحول شيئاً فشيئاً إلى إهمال أو استهداف، وهذا آخر ما قد ترغب به دولة مثل تركيا في ظل الرمال المتحركة في المنطقة.
رابعاً، استهداف تركيا في بعض الملفات والذي أظهر أن مواقفها لها نتائج عكسية عليها (دفع الثمن)، مثل فشلها في الحصول على مقعد في مجلس الأمن، او إخفاقها في الفوز بتنظيم مسابقات رياضية عالمية، ويُعتقد أن اللوبي الخليجي تحديداً كان له مساهمة في هذا الأمر.
خامساً، فشل الرهان على القوى المناهضة للانقلاب أو قوى الربيع العربي بشكل عام، بعد الإخفاقات المتتالية وتراجع الثورات كظاهرة، توجت بانتخابات الرئاسة في تونس، فكان على تركيا أن تختار الحفاظ على مصالحها و –ربما- مسك العصا من المنتصف.
سادساً وأخيراً، تدرك تركيا من قضايا ومواقف سابقة أن القدرة على التأثير في ملف ما يقتضي "التواصل" ولو بالحفاظ على شعر معاوية. وفي مناخ العلاقات الدولية التي تتحدد فيها قيمة ومكانة الدول بمقدار ما تلعب من أدوار وتستطيع من تأثير، تبدو تركيا حريصة على ترك مقاعد المتفرجين والعودة لدائرة الضوء والمشاركة في صنع الأحداث.
في هذا السياق يجب أن نلمح أن العزلة التركية قد تكون تعمّقت بعد التغير القطري واتجاهها للمصالحة مع مصر بضغط خليجي، كما أن التنسيق التركي مع قطر يوحي أن موقف الأخيرة لم يكن بعيداً عن دوائر صنع القرار في تركيا، وقد نشهد فعلاً تطبيعاً ما للعلاقات مع مصر.
لكن، هل بعد كل ما حصل، وبعد التصريحات النارية والإصرار على المواجهات والملاسنات الكلامية، وبعد كل هذه الحملات الإعلامية المصرية تجاه تركيا، وبعد إلغاء الاتفاقية البحرية، هل سيكون من السهل الحديث عن "مصالحة" أو "تطبيع" كامل في العلاقات؟.
لا أعتقد، بل أظن أن الأمر سيسير وفق خطوات بطيئة جداً وطويلة المدى ربما، تماماً كما كان التغير القطري على مراحل، ولكن بوتيرة أثقل. دعونا نتخيل أن "التهدئة الإعلامية" ستكون هي الباب، بينما ستكون الزيارات والعلاقات الطبيعية بين مصر وتركيا متأخرة نوعاً ما. كما يبدو أن أنقرة ستحتاج أولاً إلى إذابة الجليد مع الخليج، السعودية تحديداً، والأخيرة هي من يمكنها تولي مهمة إصلاح العلاقات، ليس من باب الوساطة بل من باب فرض الأمر على القاهرة كما رأينا حتى الآن في أكثر من تطور وملف.
في هذا الإطار يمكن تقييم زيارة نائب رئيس الوزراء التركي أرينتش للكويت مؤخراً، وأيضاً الزيارة الوشيكة لوزير الخارجية التركي لكل من قطر والسعودية والكويت وعمان. إذ ستشكف هذه الزيارة وما سيرافقها من تصريحات وإشارات وسياقات عن حجم التقارب التركي الخليجي، والرد على المبادرة التركية التي ألمحت إلى أنها تنتظر أن تكون الخطوة الاولى من القاهرة.
بهذا المعنى ستكون الزيارة محورية وحساسة، وسنرى إمكانية أن تكون هي البوابة لزيارات أو لقاءات مصرية – تركية منخفضة المستوى، يتبعها بعض التعاون الاقتصادي، وستكون تطورات هذه الملفات هي المعيار لتطور العلاقات بين البلدين نحو التطبيع الكامل أو البقاء في إطار علاقات الحد الادنى، التي أرجّحها.