مشروع القوة العسكرية العربية المطروح هذه الأيام جزء من التحولات الاستراتيجية الخطيرة في المنطقة، فضلا عن أنه يطرح من الأسئلة بأكثر مما يقدم من إجابات.
(1)
عندي ثلاث ملاحظات أمهد بها لمناقشة هذا المنطوق هي:
– ان القوة العسكرية مهمة لا ريب لكن القوة السياسية هي الأهم. ولا وجه للمقارنة بين من يستقوون بسلاحهم والذين يستقوون بشعوبهم. وشواهد الفشل التاريخي للأولين ماثلة تحت أعيننا، ولنا في تجربة الاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية عبرة. والمشكلات أو الأزمات التي نواجهها في العالم العربي لم تنشأ لأننا ضعفاء عسكريا. ولكن مصدرها الأساسي أننا ضعفاء وفاشلون سياسيا واقتصاديا. ليس لأننا بلا عضلات ولكن لأن الجسم العربي صار منزوع العافية.
– إن العمل العربي المشترك لم يؤخذ على محمل الجد يوما ما إلا في مجال واحد، هو «الأمن»، فمجلس الوحدة الاقتصادية مثلا تشكل فى عام ١٩٥٧. ومشروع السوق العربية المشتركة تم توقيعه منذ عام ١٩٦٤ (في العام الماضي تم الاحتفال بمرور خمسين عاما على توقيع الاتفاقية الخاصة به، ولم يكن الاحتفال بإنجازات تحققت على ذلك الصعيد ولكنه كان أقرب إلى الاحتفال بذكرى عزيز فقدناه). وفي حين اننا لم نر أثرا للتكامل الاقتصادي المنشود أو السوق العربية المشتركة، فإن مجلس وزراء الداخلية العرب الذي ولد في عام ١٩٧٧ وحده الذي جرى تفعيله وتنشيطه حتى عقد اجتماعه الثاني والثلاثين في الجزائر في شهر مارس الماضي. ولا تفسير لذلك التباين سوى ان ما خص مصالح الشعوب العربية في التنمية والتكامل لم يلق عناية تذكر في حين أن ما خص أمن الأنظمة قطع أشواطا وجرى فيه التنسيق والتكامل إلى حد بعيد.
– إن اتفاقية الدفاع المشترك التى وقعت عام ١٩٥٠ وكانت من أصداء حرب فلسطين عام ١٩٤٨ جرى تجميدها في حقيقة الأمر، حيث لم تشكل المؤسسات الدفاعية التى دعت إليها الاتفاقية (اللجنة العسكرية التى تضم رؤساء الأركان ومجلس الدفاع المشترك الذي يضم وزراء الدفاع والخارجية). ومع ذلك فإن فكرة التعاون العسكري التي كان لمصر خبرتها فيها برزت إلى الوجود منذ ستينيات القرن الماضي. وظهر ذلك جليا فى نجاح قوات السلام العربية عام ١٩٦١ فى ردع الرئيس العراقى آنذاك عبدالركريم قاسم حين هدد بغزو الكويت، وفي مشاركة القوات العربية عام ١٩٧٣ فى إخراج إسرائيل من سيناء، وقسم من الجولان، وفي قوات الردع العربية التى عملت على إعادة السلام إلى لبنان عام ١٩٧٦، إلا أن ذلك التفاعل كان من أصداء بيئة مغايرة تماما عن تلك التي يمر بها العالم العربى الآن.
على الأقل فقد كان هناك التفاف حول عناوين القومية العربية والأمن القومى العربي والوحدة العربية. وكان مسلما به ان قضية فلسطين هي القضية المركزية الأولى في العالم العربى. وهي العناوين والمعاني التى فقدت رنينها وتراجعت أولوياتها في الوقت الراهن، وهو ما يسوغ لنا ان نقول إننا الآن أصبحنا بإزاء عالم عربي مختلف تماما في نسيجه وقيمه وأفكاره عن عالم ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
(2)
لقد استفزني ما نشرته صحيفة «هاآرتس» (عدد ٣٠ مارس) للكاتب زفاى باريل عن الاحتشاد العسكري الذى يحدث في العالم العربي. إذ قال ان هناك تعبئة تلفت النظر لتشكيل قوة عسكرية عربية لأول مرة، وهو حدث مهم، لو أنه وقع فى ظروف أخرى لسبب ازعاجا وقلقا لإسرائيل. وهو ما لم يحدث. ذلك ان إسرائيل لم تستشعر قلقا فحسب، وإنما انتابها شعور هو خليط من السرور والنشوة.
أضاف الرجل في هذا الصدد قوله إن إسرائيل لم تدع إلى الانضمام إلى التحالف (الذي تصدى للحوثيين في اليمن وشن غارات عليهم) ولكنها تقف إلى جانبه فى ذات المربع الذي يقف فيه. عبر عن ذات المعنى البروفيسور ايال زيسر حين وصف الحدث فى مقالة نشرتها صحيفة «إسرائيل اليوم» (عدد أول أبريل) بأنه «بشرى منعشة» وفي نفس اليوم علق باتريك جودنوغ على قرار إنشاء القوة العسكرية فى صحيفة «جويش برس» التى تصدر بالولايات المتحدة) بقوله ان الاتفاقية التى وقعت للاحتشاد ضد إسرائيل قبل ٦٥ عاما (يقصد الدفاع المشترك) جرى احياؤها الآن للتصدى لإيران والشيعة، كما أضاف أن الأنظمة العربية «السُّنية» التى وقفت ضد الربيع العربي هي التى تقود الحرب ضد النفوذ الشيعي في الجزيرة العربية.
هكذا، فإنه على العكس مما هو مخزون ومستقر في الإدراك العربي منذ نحو سبعة عقود، فإن دعوة مصر إلى تشكيل قوة عسكرية عربية وتبني القمة العربية في شرم الشيخ للفكرة لم يعد مقلقا لإسرائيل، وانما أصبح مصدر بهجة وحفاوة في أوساطها السياسية والإعلامية. وذلك راجع لسببين أساسيين، أولهما ان العرب ما عادوا مشغولين بقضية فلسطين، لأن الثقافة السياسية في المرحلة الراهنة اتجهت لاعتبار العدو هو إيران وليس إسرائيل. أما السبب الثاني فهو ان الصراع الذي بات شاغلا للعقل السياسي والإعلامي العربي انصرف إلى تصفية حسابات ومرارات السنة إزاء الشيعة، ومن ثم اكتسب الصراع بعدا مذهبيا وليس سياسيا. الأمر الذي يتجاوز حدوده العالم العربي إلى أطراف العالم الإسلامى، فضلا عن ان الانخراط فيه يستدرج العرب إلى حروب ومواجهات تستمر عقودا في المستقبل ولم تحسمها الصراعات التي شهدتها القرون الخوالي. وذلك أكثر ما يطمئن إسرائيل ويشيع فيها البهجة والسرور.
(3)
ما سبق يسلط الضوء على جانب من التحولات الاستراتيجية المهمة التي تشهدها المنطقة العربية الآن، والتى تنقلنا إلى عصر جديد. ان شئت فقل انها بعض ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي كثر الحديث عنه خلال السنوات الأخيرة. إذ تواترت فى ظلها دلائل تراجع أولوية القضية الفلسطينية وتحول «بوصلة» العداء من إسرائيل إلى إيران. وانتقال المنطقة من الصراع السياسي إلى طور الصراع المذهبي. ثمة شهادة تعزز ذلك الادعاء أوردها زميلنا الأستاذ محمد المنشاوي خبير الشئون الأمريكية ومدير مكتب الشروق في واشنطن الذي تحدث فى تقرير أخير له عن الاتجاه لتغيير العقيدة العسكرية للقوات المسلحة المصرية التي لم تعرف عدوا لمصر والأمة العربية طوال العقود الماضية سوى إسرائيل، وهو الموضوع الذي ظل محل شد وجذب خلال تلك الفترة. إلا أنه فى ظل المستجدات التى طرأت وفي ظلها لم يعد كثيرون يتحدثون عن إسرائيل العدو، فإن ذلك اعتبر نجاحا تمنته الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وانعكس ذلك على آفاق المساعدات العسكرية التى تقدمها واشنطن لمصر. حيث حرصت على ان تقتصر أهداف التسليح الأمريكي لجيش مصر على دعم قدرته فى أربعة مجالات أساسية هى: مكافحة الإرهاب، وحماية الحدود والأمن البحرى وأمن سيناء. فى هذا السياق فإنه نقل عن الخبير الأمريكي انتونى كوردسمان من مركز الدراسات الدولية الاستراتيجية تعليقا على استئناف المساعدات العسكرية لمصر قوله ان «الأسلحة الأمريكية لمصر لا يمكن استعمالها إلا فى المواجهات العسكرية التي تدعمها أمريكا» ــ الشروق ٣/٤.
إضافة إلى ما سبق، ثمة ملامح أخرى للشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل الآن نلمح فيه تغيرا في موازين القوى يتعذر تجاهله . إذ إلى جانب تعاظم الدور الإيراني الذي تجاوزت مؤشراته حدود الدور التركي، فإن تلك الموازين اختلفت في العالم العربي على نحو رجحت فيه كثيرا كفة الدول الخليجية وهبطت فيه أسهم الدول الأخرى، المشرقية منها بوجه أخص، المثقلة بصراعاتها السياسية واعبائها الاقتصادية. وهو ما برز بوضوح في قمة شرم الشيخ الأخيرة، ذلك أنها قمة خليجية بأكثر منها عربية. وفكرة القوة العربية إذا كانت اقتراحا مصريا بالأساس لأسباب تتعلق بالتعامل المصري مع الأزمة الليبية، إلا أن السعودية هي التى حولته من اقتراح مصري إلى قرار للقمة العربية لتغطية موقفها وتدخلها العسكري فى اليمن. وقد فرضته على الأرض، حين شنت غاراتها على اليمن في وقت سابق على انعقاد القمة، قبل ان تفرضه على جلسات مؤتمر شرم الشيخ وجدول أعماله. وبهذه الخطوة فإن السعودية بنفوذها السياسي والاقتصادي عبأت العالم العربى لصالح قرارها حسم الصراع في اليمن عسكريا. وكان ذلك بمثابة إعلان عن انتقال العالم العربي من المرحلة القومية إلى المرحلة الخليجية. وبالتالي إلحاق الجامعة العربية بمجلس التعاون الخليجي.
(4)
سبق ان تحدثت عن تدهور الوضع فى اليمن، وعن العوامل التى أسهمت فى ذلك بدءا بأطماع وانتهازية الرئيس السابق علي عبدالله صالح وانتهاء بحماقات الحوثيين وطموحاتهم الغامضة ومرورا بأخطاء السياسة الإيرانية التى ارتد بعضها على إيران ذاتها. وهي العوامل التي أصابت السعودية بصدمة دفعتها للمسارعة إلى المغامرة باللجوء إلى الحسم العسكري والإصرار على المضي فى ذلك الطريق الذي لا تعرف له نهاية.
استيلاء الحوثيين على صنعاء ومحاولتهم السيطرة على اليمن اعتبر تهديدا لأمن السعودية، ودخولهم إلى عدن واقترابهم من باب المندب قدم باعتباره تهديدا للممر المائي الدولي وللأمن العربي، واعتبرت القوة العسكرية العربية صيغة التعامل مع التهديد الذي تعرضت له السعودية، والتهديد الآخر الذي تعرض له الممر الدولي، الذي قيل ان من شأنه تعطيل قناة السويس وميناء دبي.
هذا التشخيص يفتقد إلى الدقة من ناحية كما انه يتسم بالغموض من ناحية أخرى، كيف؟
ذلك ان ذريعة تهديد باب المندب بما يستصحبه ذلك من تأثيرات موجهة على قناة السويس وميناء دبي، لا تصمد أمام حقائق الواقع. ليس فقط لأن الحوثيين (ولا أستبعد ان يكون من الإيرانيين) أعلنوا عن ان الوضع في باب المندب لن يمس (تصريح محمد عبدالسلام المتحدث باسم الحوثيين الذي بثته وكالة الأنباء اليمنية فى ٤/٤)، ولكن لأن باب المندب كما مضيق هرمز تؤمنه وتحرسه قوات مرابطة على مشارفه في جيبوتي ومياه المحيط قوات أمريكية وفرنسية وروسية وإيطالية ويابانية وصينية، وهذه قوامها نحو سبعة آلاف جندي، مدعومون بالطائرات والبوارج والصواريخ بعيدة المدى (أمريكا وحدها لها ٤٢٠٠ جندى وفرنسا ١٩٠٠ جندى).
من ناحية ثانية فإن القوة العسكرية العربية لا يعرف الهدف منها بالضبط. أعني هل سنحارب إلى جانب ضد آخر، أم أنها ستحرس اتفاق المتحاربين، وهل ستسهم فى رد العدوان الخارجي أم أنها ستجهض الاضطرابات الداخلية، وما هي الجهة التي ستتولى قيادتها وكيف ستتخذ قراراتها. وهل سيكون مجال حركتها في العالم العربي بأسره أم في دول دون أخرى. وهل صحيح أن جنودها سيكونون من أبناء الدول الفقيرة وان الدول النفطية هي التي ستتولى تمويلها. إلى غير ذلك من الأسئلة الحائرة التي تتوالد كل حين، فى غيبة وضوح الرؤية وغموض الهدف.
بسبب من ذلك فإنني لا أخفي شعورا بالتوجس والقلق إزاء ذلك الغموض، الأمر الذي يشككني في إمكانية ظهور المشروع إلى النور خلال الأشهر الأربعة التي حددت لذلك، إلا أن أسوأ وأخطر ما في الأمر أننا صرنا نفكر كثيرا فى كيفية دحر خصومنا المحليين بأكثر مما نفكر في التصدي لأعدائنا التاريخيين. ليس ذلك فحسب وإنما صرنا نحتكم إلى السلاح في مواجهة أهلنا بالداخل ونمارس السياسة مع عدونا في الخارج.
…………………….
مصدر المقال: CNN